17 سبتمبر 2025
تسجيللم يكن الفيلم الوثائقي «إلى أبناء الوطن» ليلة البارحة هو الذاكرة العالمية الأولى لشخصيّة قياديّة فذّة، بل هو الإنجاز الأول للعدسة الخارجية لتسجل الكاميرا ما اختزنته ذاكرة قلوب أهل قطر من صور حيّة التقطتها أمهات أعينهم مرارا وتكرارا لأمير القلوب. وذاكرة القلوب التي في الصدور هي المستودع الرئيس لذاكرة العقل وصورة العين بشهادة الطبّ وهي الأبقى أثرا. ولعلّ الانعكاس التلقائي لشخصية الأمير الوالد الملهمة هي التي سهّلت على الكاميرا مهمّتها في ترجمة ذلك في فيلم غنيّ ولكنّه الأصعب لأنّه السهل الممتنع الذي جاءت صعوبته وبراعة إنجازه في كيفية احتواء واختزال هذه السيرة الضخمة الغنيّة المحليّة العربيّة الإسلاميّة الدّولية الإنسانيّة في مشاهد محدّدة في فيلم واحد في سيرة هي حقّا من ألف ليلة وليلة. تعلمنا من سيرة (الوالد حمد) كيف يولد الزعماء، وماهيّة الفروق الدقيقة بين الزعامة والحكم أولئك الذين لا ينتهي اسمهم بانتهاء كرسي الحكم بل يعيشون وتعيش ذاكرتهم وإن ترجّلوا. والأعظم أننا تعلمنا كيف يسدّد الزعيم الرمي والقدوة الحسنة في حمل قيمة الوطن وحبّه وتقديمه على نفسه عندما يتعامل مع الحُكم كحكمة وخلافة في الأرض لا تمجيدا وعرشا ذاتيا تناشد هامان بناء الصّرح بقبضة «أنا ربّكم الأعلى»... فإذا كانت الدول قد أحدثت فيها الشعوب ثورات غيّرت مفهوم استحقاقات الشعوب وصياغة أنظمة الحكم أو حكوماته، فإنّ الوالد حمد بن خليفة قد أحدث بذاته ثورتين: شعبية صاغت لشعب قطر مفهوم الحقوق مدنيا ومفهوم مكانة قطر في الخارطة وهويّتها المتفرّدة دوليا، وثورة حاكميّة عالمية ترجمت ما قصدته اللغة العربية العميقة من مدلول كلمة «زعيم» في إعطاء دفة القيادة لخلفه في قوّة وتمكّن لا في ضعف أو مرض! فسهر الخلق جرّاه واختصموا كما يقول المتنبي. فاحتار فيه حتّى الأعداء فوصفوه في عناوين مقالاتهم: «هذا هو الرجل الذي يهابه العرب» كما جاء لدى رئيس منتدى الشرق الاوسط الحكيم في «صحيفة اسرائيل اليوم» فبراير 2011 حرص الأمير الوالد على وضع قطر والانسان القطري على الخارطة الدولية منطلقا من هويّة وطنيّة مميّزة في ظل تطوّر ونهضة علميّة وثقافية وحضارية استثمر فيها في الإنسان القطري قبل العمران وكأنه عالم اجتماع متقدّم متمكّن من مقولة ابن خلدون (الانسان هو أساس العمران)، فشقت قطر بفكره السابق لزمانه سنوات ضوئية واحتلت مكانة بارزة على الساحة العالمية بنفوذ بشري وسياسي دبلوماسي وفكري. رؤية صور سموه في الطفولة في الفيلم تودّ بها أن يعود الزمن للوراء أو أن يتمكّن الذكاء الاصطناعي من استنطاق ما نقرأه في عينه فيها لتسمع مفرداته تلك التي منها «آن للجزائر العربيّة ان تعود لأهلها» وخطابه بها في الطابور الصباحي لمناهضة الاستعمار ليس بغريب على من يمتلك هذه الروح العروبية القيادية. ولأن الطفولة خير موجه للمستقبل كانت هي تلك الشخصية ذاتها تمثلت في الزعيم الأممي في دعمه لكافة قضايا امته دعما لم يعتمد فيه المال كون قطر دولة نفطية بل بذل فيها كافة المساعي الدبلوماسية والسياسية لقيادة ائتلافات واتفاقيات ووساطات لنصرتها مهما كلّف الأمر، وهذا ما عبر عنه سموه فيما وضعته الشرق القطرية اقتباسا منذ أعوام في كلمته في «غزة» «إن وجودنا اليوم على أرض فلسطين في غزة العزة لأمر مختلف: من هنا يبدو الحلم الذي نهلنا مفرداته منذ الصغر أقرب كلما طرفت العين في الأفق صوب المتوسط.. ونحن نعي ماذا تعني لنا فلسطين إسلاميا، وما تعنيه أيضا من استمرار العداء لدولتنا. حلم الصغر هو موجّهُ الغدِ ورؤية المستقبل، وفي حياة قائدنا دروس وعبر في القيادة التي ورّثها خليفته ليتممها في قطر وورثها لنا ولأطفالنا من بعدنا، فانتقلت به قطر من وطن لنا الى وطن كوني وصف به بضمير العالم الحيّ...وصوت الشعوب المستضعفة في كعبة المضيوم، فكان لنا «الحضن الدافئ» الذي بذر البذرة فكانت « الدوحة» بلد طيّب يخرج نباته بإذن ربه. وعـــودٌ على بـــدْء.... لم يكن الفيلم الوثائقي «إلى أبناء الوطن» هو الذاكرة الأولى! تلك هي الليلة الأولى من ليالي ألف ليلة وليلة.. والتي دعونا نتمناها أن تكمل سيرة الوالد حمد فتستشهد المزيد من تاريخ حافل لم يدوّن بعد هو حاضر في جنباته وحلّه وترحاله وفي ذاكرة شعبه الشفويّة ممّن اختصه التاريخ بمجالسته ليدوّن ما لا كاميرا رأت ولا أذن سمعت.