19 سبتمبر 2025
تسجيلأوتا بينغا شاب أفريقي كان يعيش في الأراضي التي كانت تسمى يوما "الكونغو البلجيكية"، ينتمي لشعب مبوتي إحدى مجموعات الأقزام التي تقطن تلك الأراضي، ويعني اسمه في لغته المحلية "الصديق"، كان أباً لطفلين، لم يتجاوز الحادية والعشرين من العمر، يعيش حياة هانئة مستقرة، لم يكن في المنزل عندما وقعت الفاجعة التي قلبت حياته رأساً على عقب، في العام 1904، إذ كان في رحلته اليومية للبحث عن طعام يطعم به عائلته الصغيرة. عاد أوتا بينغا الذي لا يتجاوز طوله مترا ونصف المتر إلى قريته حاملاً معه الطعام لأسرته، فوجد زوجته وطفليه صرعى مضرجين بدمائهم مع كل أفراد مجموعته من الأقزام، فقد تعرضوا لهجوم وحشي وإبادة جماعية على يد مجموعة من المستعمرين، بعد رفضهم العمل في مزارع المطاط، فقضوا عليهم وأبادوهم عن بكرة أبيهم، ولم ينجُ منهم سوى قلة من الذين كانوا برفقة أوتا بينغا خارج القرية، فتم أسرهم واقتيادهم نحو المجهول. في تلك الأثناء، كان المبشر الأمريكي صموئيل فيليبس فيرنر، الذي تحول إلى مستكشف يجوب الأرجاء والمستعمرات بحثا عن حيوانات غريبة يتاجر بها، في مهمة استكشافية في الكونغو، كُلف بها من قبل العالم ويليام جون ماكجي، المتخصص في علوم الانثروبولوجيا، بهدف العثور على "الحلقة المفقودة" وجلبها معه الى الولايات المتحدة الأمريكية. وبعد أن شاهد المبشر صموئيل أوتا بينغا شعر أنه وجد ضالته فاشتراه من مرتكبي المجزرة من المستعمرين بثمن بخس، ولم يدفع ثمنه بالمال، بل بكمية قليلة من الملح! وعاد به في قفص كالحيوان الى الولايات المتحدة، حيث تم عرضه في معرض سانت لويس العالمي في ميزوري الذي أقيم بهدف استعراض الأجناس ورسم خارطة لتطور الإنسان، فتقرر أن يتم وضع أوتا بينغا في أدنى مراتب الإنسانية ليكون شاهداً على توحش الشعوب البربرية البعيدة والغريبة ودليلاً على صحة نظرية التطور، و تم تقديمه للجمهور كالحلقة المفقودة بين القرد والإنسان!. اجتذب المعرض 20 مليون زائر جاؤوا ملؤهم الشغف لمشاهدة أوتا بينغا المتوحش والبدائي، وما دعّم تلك النظرة عنه، أسنانه المنحوتة والحادة والتي بدت كالأنياب وهي ممارسة كانت شائعة لدى قبائل الكونغو، فتم تصويره كأحد آكلي لحوم البشر، وهو لم يكن كذلك. في نهاية المعرض تم تكريم صموئيل فيليبس فيرنر نظير جهوده الانثروبولوجية في اكتشاف الحلقة المفقودة وإسهامه المهم والكبير في إثراء الحقل العلمي. وبعد عامين من المعرض ولعدم استطاعة صموئيل إطعام أوتا بينغا البائس، قام بإعارته لحديقة حيوان "برونكس" في مدينة نيويورك ليوضع في قفص للقرود، جنباً الى جنب مع الشمبانزي، ليظهر كسلف قديم للإنسان، ونجح أوتا بينغا في اجتذاب 40 ألف متفرج جاؤوا لمشاهدة ماضيهم الغابر في هذا الإنسان الضعيف، إلى أن تصاعدت الاحتجاجات والانتقادات عبر الصحافة، والتي قادها الأمريكيون السود في البداية، لتنتشر لاحقا في الصحافة الشعبية، منددة بذلك الفعل والسلوك، والذي وصفته بالسوك الوحشي الذي لا ينبغي على دولة متحضرة أن تمارسه. قبل مائة عام وإبان حقبة الاستعمار كانت تلك الممارسات أمراً شائعا ومقبولاً، وقد استمرت منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، فكان يؤتى بالسكان الأصليين من المستعمرات في أفريقيا واستراليا وشتى أصقاع العالم التي وطأتها قدم المستعمر، ليتم وضعهم في ما يسمى بـ"حدائق الحيوان البشرية" في أوروبا والولايات المتحدة، جنبا إلى جنب مع مختلف أنواع الحيوانات. وبجانب الوضع المزري والذل الذي كان يتعرض له أولئك البشر، كانوا يرغمون على أداء أدوار مسرحية لا تتوافق مع واقعهم الفعلي، فكانوا يقومون بأداء عروض تظهرهم بمظهر بدائي متوحش أو آكلي لحوم البشر، في عملية يبرر من خلالها الأوروبي استعماره لأفريقيا، ويبرز التفوق المزعوم للعرق الأبيض. تعطينا تلك القصص التي سجل التاريخ نزراً يسيراً منها، وضاعت الغالبية العظمى من تلك الوقائع المأساوية والوحشية ولم تحفظها ذاكرة التاريخ وطواها النسيان، دليلاً شاخصا على المدى الذي من الممكن أن تصل إليه قسوة الإنسان تجاه أخيه الإنسان، وفي الوقت الذي سجل لنا التاريخ بعضا من تلك البشاعات والقصص التي تحكي قسوة المستعمر وما مارسه من إبادة جماعية واستعباد، نجد أن إنسان ذلك الوقت كان يظن أنه بلغ أوج الحضارة والتحضر، وأنه بفعله ذاك كان ينشر التطور والتقدم، مزهوا بمنتجاته الحضارية وآلاته البخارية التي ابتكرها للتو، متباهياً باستخدامه للأسلحة النارية التي قلبت موازين القوى ليطوع بها بني جنسه، ويستعبده و يفنيه، إلا أننا في الوقت الراهن عندما نسترجع تلك الأحداث والقصص تلوح لنا كشواهد خالدة على انحدار الإنسانية إلى أبشع صورها، يرافقها الندم والاعتراف بالذنب، ومحاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه. في ما مضى كانت العبودية أمراً عادياً تجد من الأعذار والحجج التي يبرع الإنسان في اختلاقها ما يبررها ويقننها، فحتى وقت قريب نسبياً كان العبيد يشحنون من المستعمرات الأفريقية في السفن مكومين في وضع غير مقبول، لا يسمح به حاليا حتى للبهائم، مكبلي الأيدي والأقدام، ليُعبر بهم المحيط الأطلسي نحو العالم الجديد، فينجو من ينجو ويموت الغالبية منهم فيلقون في البحر طعاما للأسماك، وتشير تقديرات إلى أن عدد العبيد الذين تم شحنهم في سفن الموت تلك، يفوق اثنى عشر مليون إنسان، في حين يقدر البعض أن عددهم يفوق هذا الرقم بكثير. عندما نتأمل تلك الوقائع والأحداث، وما أفرزته من وجهات نظر تجاهها في ذلك الوقت ونقارنها بتقييمنا لها حاليا نجد تباينا كبيرا في الأحكام. وأمام إقرارنا بذنب الإنسانية حينها، يتبادر إلى الذهن سؤال مهم، وهو: هل نضمن أن تصرفاتنا المعاصرة والمقبولة حالياً لن يُحكم عليها مستقبلاً بالهمجية والبربرية، وستندم عليها الإنسانية حينها؟ يظن الإنسان أن الحضارة القائمة وما يترافق معها من مظاهر التقدم والتطور بلغت منتهاها، وأن البشرية وصلت الى النضوج الكافي والتطور الفكري التام، وأن الإنسان لم يعد بحاجة لمراجعة القيم التي تؤطر أفعاله وتحكم واقعه وحياته، إلا أن الأمر لا يبدو كذلك للأسف، فالمتأمل للواقع يجد أن كثيرا من السلوكيات البشرية التي تمارس في إطار الحضارة والتقدم، تشي بأننا سنندم عليها مستقبلاً وسيدينها أحفادنا ويخجلون من ذكرها، وستكون تركة ثقيلة نورثها لهم. تعاني حضارتنا الصناعية الفاتنة، بالرغم مما تقدمه لنا من فوائد ومغريات، من خلل كبير يكشف لنا أن الحضارات لا تسلك طريقاً ذا اتجاه واحد بالضرورة، ولا ترتقي المراتب نحو العُلا حتمياً، وأنه دون أن يعي ويتنبه الإنسان لذلك، فإنه مهدد بالفناء وبانهيار حضارته في أي لحظة. إن السلوكيات المشينة التي يبررها إنسان العصر الحديث من قتل ودمار وحروب، تبين بشكل جلي أنه لم يصل بعد إلى مرحلة النضوج والاستنارة الفكرية، وطالما أننا نقتل بعضنا بعضا لأسباب واهية، وطالما يوجد في العالم جياع في الوقت الذي يعاني فيه آخرون من السمنة المفرطة الى درجة الموت من مضاعفات الشبع، وفي الوقت الذي يستحوذ (1%) من سكان العالم على 50 % من ثرواته في حين يتقاسم الـ 99% النصف الباقي، فلا شك أنه لا يزال بيننا وبين النضوج الإنساني بون شاسع. من بين المخلوقات التي تشاركنا الكوكب وتعاني منا أشد معاناة من تدمير لبيئتها والقضاء على سلالاتها لأسباب واهية، فإن الانسان هو الكائن الوحيد من بينها الذي يقوم بقتل بني جنسه لأسباب تافهة، فالحيوان لا يقتل أخاه في"الحيوانية" إلا لسبب وجيه "حيوانياً" كالدفاع عن النفس او لردء خطر محدق، في حين قد يقتل الإنسان أخاه الإنسان لاختلاف لونه أو عرقه أو دينه! او حتى عندما يختلف معه في وجهات النظر! كما أنه لا يوجد من بين المخلوقات من يقوم بتدمير بيئته بمحض إرادته سوى الإنسان، فيلوثها ويضرم النيران فيها ويستنزف ثرواتها ويجفف أنهارها وينابيعها، ويهلك حرثها ونسلها. ومن يعلم ربما يأتي يوم من الأيام تندم فيه الإنسانية على ما مارسته من سلوك تجاه الحيوانات من قتل وتعذيب وإبادة واحتجاز، كما تندم اليوم على ما قامت به تجاه أوتا بينغا. علاوة على ذلك، فإن إنسان اليوم الذي يظن أنه بلغ مرحلة النضوج الكافية، مهووس بالتسلح ليحمي نفسه من بني جنسه، وكذلك يفعل الآخرون من بني جنسه، الكل يحاول امتلاك أسلحة الدمار الشامل خوفاً على نفسه من الآخر، وهم جميعاً يعلمون يقيناً ويعرفون تمام المعرفة، أن تلك الأسلحة، التي من المفترض أن تحمي الإنسان، لو أنها استخدمت لأبيدت البشرية برمتها. يقول العالم الشهير آينشتاين: أنا لا أعرف بأي أسلحة ستخاض الحرب العالمية الثالثة، ولكن الحرب العالمية الرابعة ستخاض بالعصي والحجارة، في حين يرى المفكر الأمريكي البارز نعوم تشومسكي أن العالم مصمم على السقوط نحو الهاوية. مازال أمام الإنسان مشوار قد يطول حتى يصل للحكمة التي ستبقيه متفوقاً وسيداً على العالم، ومن دون النظر لواقعنا بنظرة موضوعية جادة، فإن مسيرتنا لبلوغ أوج الحضارة ليست حتمية التحقق، وسنبقى دائماً مهددين بالانتكاس ورجوع القهقرى، في أي وقت، وستظل حضارتنا التي نراها مستقرة ومستمرة في الصعود الى أعلى، قاب قوسين أو أدنى من السقوط في الهاوية في أي وقت، وحينها لن ينفع الندم. لقد أثمر الضغط الشعبي الذي مارسته الصحافة في الولايات المتحدة إلى تنبيه الرأي العام لقضية أوتا بينغا، ونجحت تلك المساعي في إطلاق سراحه وإخراجه من حديقة الحيوان إلى عالم البشر، وتم إلحاقه في البداية بدار للأيتام تتبع للكنيسة، حتى بدأ في تلقي التعليم النظامي وتعلم الانجليزية واستطاع أن يتحدث بها، ونجح في الحصول على وظيفة كعامل في مصنع للسجائر، وكان حينها محط أنظار الجميع يتسمر حوله زملاؤه في العمل في أوقات الاستراحه لسماع قصته المأساوية ليروحوا عن أنفسهم ويسلوا خواطرهم، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى فقد أوتا بينغا الأمل الذي كان يحدوه بالعودة الى موطنه ومسقط رأسه على ضفاف نهر كاساي في "الكونغو"، فسرق مسدسا وأطلق النار على قلبه ومات منتحرا بعد اثنى عشر عاماً من الأسى والعذاب وهو يناهز من العمر الثانية والثلاثين، ودفن ودفنت معه قصة مأساوية تحكي فصلاً مظلماً من تاريخ الإنسانية الغربية، وتروي جزءاً يسيراً من قسوة المستعمر، وتدلل على أن الذين جاؤوا من كل حدب وصوب ليحدقوا في أوتا بينغا وهو قابع في قفص بجوار الحيوانات فشلوا في رؤية الإنسان في داخله ولم يلحظوا بريق الإنسانية الذي يشع من عينيه.