11 سبتمبر 2025
تسجيللأنها دفاتر تخص شابا فلسطينيا خطّ نصوصها خلف القضبان، فهي توحي للوهلة الأولى أنها تصف نضالا أودع على إثره أحد سجون الاحتلال، إلا أنها مع نضاله تسجل موقفه كمعتنق للشيوعية حين اعتقلته السلطات المصرية على أعقاب مظاهرات، منتصف القرن الماضي! يتنفس إهداؤه الروح الفلسطينية الحرة وهو يهديه بخط يده «إلى شعبنا الفلسطيني في زنازين الأرض المحتلة يرفض أن يستنكر فلسطينيته»، وتشهد دفاتره كذلك على نضال رفاقه السجناء وقد «كتبوا إحدى السيمفونيات الهامة في تاريخ شعبهم»، رغم الحصار والتشرد والاعتقال والتقتيل. «فما استنكروا فلسطينيتهم، وما عضوا الشيوعية»، بل واتفقوا مع رفاقهم المصريين من أتباع الحزب على شن الاستنكار بأقلامهم! عليه، أتت هذه الدفاتر. يقدم الشاعر سميح القاسم للدفاتر الذي يعتبرها جاءت في الزمان والمكان المناسبين، من أجل التصدي لدعاة النكوص والتخاذل والتسليم المذل «فلا الوطن تحرر ولا الشعب استقل ولا الدول ذات السيادة تحققت، وما زالت القدس عاصمة روحنا وتاريخنا وحلمنا، عرضة يومياً لمشروع التهويد الهمجي». ومن (دفاتر فلسطينية)، أو بالأحرى من دفاتر مارد السنابل معين بسيسو (1928: 1984) في طبعتها الثانية الصادرة عام 2014 عن (دار الفارابي للنشر والتوزيع)، والذي يزين غلافها بلوحة زيتية وهو يشتمل بكوفية، أعرض صفحات من زنازين العذاب وأخرى من عذب الذكريات، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر): في البداية، كان الدخان يتصاعد في جو القاهرة كالحجارة التي كان البوليس يتصدى لها بالقصف، ويبحث عن الشاعر الذي لم يكن حينها سوى طالب في الجامعة الأمريكية، متخفياً جائعاً وخاطره يقرض شعراً يتساءل فيه: «لمن الشارع من يملكه؟ نحن أم من يملك الجيش الكبير؟ طردت منه الجماهير التي زرعت من قلبها في القصور. لم تعد تدوي به صيحاتها وهي في ثورتها الكبرى تسير. حاكموها.. عاقبوا كل فم صارخ في وجه حفار القبور.. هذه أرضي ولن أزرعها جثثاً.. بل سنبلات وزهور». أي شرف يبقى لرجل عمل في القوة البوليسية؟ يكيل معين في الدفتر الرابع سيلا من الذم في حق من ماتت ذمته، وقد شهد على ما شهد من سوأة الأخلاق: «حينما يتحول أحدهم إلى شرطي مباحث أو مخابرات فهو على استعداد لكي يحلب ثدي أمه ويقدم حليبه كأس عرق». يأتي أبو نحل -وهو أحد عراة الشرف- إلى بيت أم بسيسو التي ربته صغيراً ليعتقله وإخوته، في خيانة سافرة لكرم المأوى الذي حظي به وأفراد عائلته حين لجؤوا إليهم مشردين! يمسك بمعين، فتصرخ آمنة مستنكرة: «جئت تعتقله.. لماذا؟ لقد كان يدافع عن أطفالك. لم يبق إلا أن يسلخ جلده ويقدمه له لحافاً». يصور معين الموقف بعينه التي كانت تراقب أبو نحل، والذي: «كان يريد أن يخبئ عينيه فنظر إلى قدميه دون أن يدري. دائماً المباحث ينظرون إلى أقدامهم الكبيرة، الأقدام التي كبرت من فرط متابعة وملاحقة الأيدي التي تكتب». وعن حفاوة الاستقبال التي استهلت فيها المطارق جماجم الرفاق في الزنزانة، تأخذ الحمية أحدهم عندما شاهدها تنهال على معين، إذ أنه «الرفيق القائد». يصف معين تلك اللحظات الجارحة قائلاً: «وعرفوا أنني الكبش، رأس هذا الطابور من المعتقلين الفلسطينيين. وأغمي عليّ من هول الضرب وصحوت، وإذا برأسي بين يدي، ممنوع عليّ أن ألتفت إلى اليمين أو إلى اليسار، إلى الأمام أو إلى الخلف. كان على الرأس الفلسطيني أن يدخل ثقب الإبرة. تحس كأن محراث يدور في رأسك. ماكينة الحلاقة تدور ويسقط شعرك، هذا الصوف الفلسطيني المطلوب دائماً». يشتد الوضع سوءا كما يصفه معين في دفتره الخامس، ويقرن ما يجري على الأرض الفلسطينية من مسح مذل، بما يجري عليه وعلى كل فلسطيني معتقل، فيقول: «ماذا فعلوا بالوجه الفلسطيني؟ لقد حلقوا شعر الرأس وحلقوا الحاجبين. ماكينة الحلاقة التي دارت في الرأس الفلسطيني، كانت تدور كالمحراث في الأرض الفلسطينية. لم أكد أعرف أولئك المحكومين معي في الزنزانة، ولكن حينما استيقظنا في السادسة صباحاً على مفتاح وكرباج السجان عرفنا أننا لا يمكن أن نكون غير فلسطينيين». ليس بالضرورة أن تلسع الكرابيج الظهور العارية حتى تتعالى الصرخات، إذ تتكفل صرخات الرفاق بنقل العدوى، فيصرخ بقية الرفاق للسعات لم تحدثها كرابيج! يلون معين هكذا مشهدا وحشيا بريشته قائلاً: «حينما تخلط لونين يخرج لون ثالث. فماذا كان يحدث حينما كان السجان يخلط بكرباجه مائة صرخة لمعتقل؟ العذاب دائماً يأتي من خارج الزنزانة، فحينما يبدؤون تعذيب جارك في الزنزانة المجاورة يبدأ العذاب بالنسبة إليك، إنك تنتظر دورك وهم يعرفون كيف يطيلون عذابك في الانتظار، فقد لا يأتي دورك في هذه الليلة ولكن ألسنة النيران قد بدأت تشتعل في عظمك. كل صرخة تأتي إليك من خارج الزنزانة لسان نار، دخان النيران يتسرب من جسد جارك المعتقل، إنهم يذبحونه بالنار ويخنقونك بالدخان». يتنبأ أحد الرفاق بطول أمد القضاء فيقول: «سوف يطول نومنا في سجن مصر العمومي» لكن معين لم يكن يراه سوى قدراً، فيقول: «والزنزانة هي حجرة نوم الفلسطيني».