10 سبتمبر 2025

تسجيل

ولدى كريشان تفاصيل لم تُبث {1-3}

19 يوليو 2024

كالشعاع الأبيض الذي يُسفر عن سبعة أطياف إذا خضع للتحليل الضوئي، كذلك السياسية التي إذا حُسر الستار عن كواليسها، أسفرت عن صور لا تعكس بالضرورة ما عُد واقعاً على مسرحها! ينبري إعلامي مخضرم لإزاحة طرف من ذلك الستار الثخين، ليكشف عن خبايا أحداث ومواقف وشخصيات وعوارض وقفشات كذلك، جالت في أروقة السياسة العربية.. كشاهد من أهلها! إنه (محمد كريشان) الأشهر من نار على علم الجزيرة، وهو المولود في صفاقس تونس عام 1959، والذي أخذ منه الإعلام مأخذاً في صغره حتى توّجه بإجازة جامعية في الصحافة وعلوم الأخبار، ما فتح الباب أمامه على مصراعيه في تلقي المهام وتولي المناصب، من محرر صحفي في بلاده، إلى مراسل إخباري في قنوات عربية، ثم إلى مذيع ومقدم برامج في قناة الجزيرة الإخبارية حتى الوقت الحاضر، وقد عني بالشأن الفلسطيني - ولا يزال- ككاتب عمود في صحيفة القدس العربي. والإعلامي وهو يجول في دهاليز السياسة -كسياسي محنّك شرع في كتابة مذكراته - يبث الكثير من ملامح سيرته الذاتية في كتابه (محمد كريشان يروي: وإليكم التفاصيل) الصادر عن (دار جسور للترجمة والنشر)، والذي يكشف عن جانب لطيف من شخصيته، خلاف المهنية! فبانسيابية وبمنهجية، يتنقّل الإعلامي في سبعة فصول تبدأ بخطوة الطريق الأولى، وتنتهي بعصارته، وهو لم يغفل عن إدراج صور من ألبوم ذكرياته في الختام! وأنا إذ أستشهد بعظة المتنبي في (خُذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به.. في طلعة البدر ما يُغنيك عن زحل)، فقد يجد القارئ في حديث الإعلامي ما يغنيه بشكل أو بآخر عن لاقطات الفضائيات. ففي الفصل الأول (تونس: فجر الصحافة وليل السياسة) يظهر الإعلامي كشاب في المرحلة الجامعية الثانية وهو يطرق باب (سي حسيب) في (جريدة الرأي) التونسية ليطلب عملاً جزئياً، وقد فُتن بالجريدة التي عكست حلمه في نبذ الاستبداد وجرأة الطرح وتعدد الحزبية، خلاف «الإعلام الرسمي المتكلّس»، في حين يلتقي بعد مرور الأعوام بـ (الباجي قايد السبسي) وقد كان أحد أعضاء الجريدة البارزين، وتحديداً في نيويورك عام 2015 ليبادره الأخير بسؤال: «توا أنت الآن تونسي أم قطري؟» ليؤكد له على (خضرة تونسيته). أما النسخة المغدورة من المجلة التي صادرتها السلطة الجديدة في الثمانينيات، وقد احتوت المقالة (النشاز) للصحفية الجريئة (أم زياد) وهي تتحدى وعود السلطة «بإطلاق سراح الكلمة»، ومقالته التي جاءت بعنوان «لا.. ليس هؤلاء رجال التغيير» والتي لم يبخل فيها بذات النقد والتحدي، فما زالت في حوزته، تشهد على سراب وعود الديمقراطية! وهو يختم مهمته الصحفية في ليبيا آنذاك، يؤثر السلامة وقد هم بإخبار مرافقه الليبي -الذي لم يكن سوى مخبر- بأنه اقتنى كاميرا ومسجلا أخيراً، خلاف التقرير الذي كتبه عنه، ووقع عليه خلسة وهو في السيارة! كذلك، لا يفوّت الإعلامي وقائع تحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي والانسحاب الأخير عبر طائرات هيلوكوبتر، فيقابل طفلاً من مدينة العريش الذي لم يعلم بالقوة الإسرائيلية المغتصبة إلا من والديه، حيث تخلو مناهجهم الدراسية من هكذا علوم! أما «أخ العروس» فكانت طرفة بطلها زميلهم المصور -الذي كان في الأصل مصوراً لمناسبات اجتماعية- حين تلكأ في التقاط صورة لممثلي القيادتين الفلسطينية والسورية (أحمد الدجاني) و (فاروق الشرع) أثناء انفرادهما بالحوار همساً «في لقطة مشبعة بالدلالات السياسية»، خلال اجتماع محتدم لوزراء الخارجية العرب. وعن مدينة الدوحة الهادئة، فكم تبدو متواضعة مع أول زيارة له في التسعينيات، وقد حظي وفريق العمل الموعود لقناة إخبارية واعدة، بلقاء ولي العهد الذي لم يجده تقليدياً ضمن القيادات الخليجية يومئذ، والذي آلت قطر على يده إلى ما آلت إليه، كبلد لا يشبهه التواضع الذي كان! أما في (الفصل الثاني: وبدأت الهجرة)، وعلى الرغم من شتاء لندن القارس، فالإعلامي يذكر كيف تصبب العرق منه صبّاً في أول بث له على الهواء عبر شاشة (بي بي سي) العربية، وقد خُصّ بالبث في العشرين من مارس، كُرمى، لمصادفته ذكرى استقلال بلاده. كذلك، لا يزال يتذكر جيداً يوم الرابع عشر من يوليو من عام 1996 حين دلف من باب المطار عبر لهيب صيف خانق إلى باب تلك القناة حيث «ولادة الجزيرة» وبداية حقبة جديدة في حياته امتدت إلى نحو ربع قرن، فتسلل الشيب خلالها إلى مفرق رأسه، ليطغى فيما بعد ويصبح صفته الغالبة! لذا تراه يقول: «لأن قطر وإن كانت تبدو صغيرة أو حتى مملة أحياناً، إلا أنك ستكتشف مع السنوات أن فيها سحراً وراحة بال وأماناً ورفاهية وطيب معشر من أهلها، ما يجعلك ترتاح فيها كثيراً إلى درجة أن مجرد التطرق إلى مسألة مغادرتها يوماً ما، غالباً ما يكدّر صفو أي جلسة». لا يغفل الإعلامي عن إطراء تلك الشابة القطرية (إلهام السادة) كأولى أعضاء فريق العمل الجديد، والتي كانت تفيض حيوية، ودأبت من يومها على مقارعة الحجة بالحجة، كما هو معهود عنها حتى اليوم.