10 سبتمبر 2025
تسجيلالحمد لله الذي بسط الأرض وجعلها كلها موطنا للإنسان يتنقل فيها حيث يشاء، والصلاة والسلام على من نشر الدعوة بين أرجاء الأرض، وعلى آله وصحبه أجمعين. لم تكن الحضارة الإسلامية يوماً منغلقة على ذاتها، ولم تمنع يوماً التواصل بين المسلمين وأهل الثقافات الأخرى، بل كانت حضارة منفتحة على الآخرين، بكل ما لديهم من خبرات وثقافات، وأفكار وعادات، ولم يكن هناك خوف على الإسلام أو المسلمين، لأنهم كانوا يملكون الموازين والمعايير التي تمكنهم من الاختيار الواعي، والحكم على الأشياء. قارنوا هذا بسياسة العزل في روسيا التي اتبعها " ونستون تشرتشل " في أربعينيات القرن الماضي، حيث أصدر مرسوماً يقضي بعدم خروج أو دخول أحد إلى روسيا مدة عشرين سنة، وهو ما عرف آنذاك بـ " الستار الحديدي"، فمنع حتى الإعلام بصوره المختلفة من دخول روسيا، بهدف بناء ونشر وتثبيت الفكر الشيوعي فيها. جيل الصحابة كان جيلاً منفتحاً والحديث التالي يوضّح أن المسلمين أيام النبي ( كانوا منفتحين على الحضارات الأخرى، والثقافات القريبة منهم، يقول أبو هريرة (كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَؤونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأَهْلِ الإِسْلاَمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة : 136] )) رَوَاهُ الْبُخَارِي وقال النبي ( حَدِّثُوا عَن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ ) أحمد هذا الانفتاح كان منضبطاً بضوابط في مجمل تؤدي إلى هدف واحد، وهو ألّا يؤثر هذا الانفتاح على ثوابت الإيمان أو قطعيات الشريعة. عالم جديد هكذا أتخيل حضارة الإسلام في المستقبل، حضارة منفتحة على العالم، وليس منغلقة على ذاتها ومكوناتها، لأن البعض قد يتخيل الحضارة قائمة على فكرة " كل شيء حرام وكل شيء ممنوع " فالفن حرام، والإنترنت حرام، وقس على ذلك الكثير مما اختلف حوله العلماء. ومن تخيل الحضارة بهذه الصورة القاتمة، هل سيتمكن من تطبيق المنع ..؟ الجواب: لا، فعهد المنع ولّى، وبوجود الإعلام الحديث كالفضائيات لم يعد بإمكان أحد الحجر على العقول أو محاصرة الأفكار، ومصادرة الآراء، وكم ضحكت عندما تقرر بعض الدول منعي وبعض الدعاة من دخول أراضيها، وكأنهم سيحولون بيننا وبين الناس، ولقد أطال الله تعالى في عمرنا حتى رأينا شباباً أشعلوا ثوراتهم باستعمال الفيسبوك والتويتر وغيرها من أدوات التواصل الاجتماعي، وأطاحوا بزعماء دول، ورؤساء حكومات. - التقوى هي المانعة والحاضنة نحن نتحدث عن عالم جديد لا مكان للمنع فيه، فحضارة الإسلام لا تمنع الناس من الفكر والثقافة والتعبير عن الرأي، لأن الشيء الذي سيمنع الناس هو تقوى الله تعالى، والتربية السليمة، وليس القهر والاستبداد، والظلم والتعسف، نحن نستطيع أن نضبط ما بين أيدينا من وسائل الثقافة والإعلام، كفضائياتنا وقنواتنا، لكننا أبداً لن نستطيع أن نضبط كل العالم بفكرتنا، فمثلاً من سيملك القدرة على منع الناس من استخدام الانترنت ..؟! ليس القهر والاستبداد الذي سيحمي شبابنا وأبناءنا، بل سيحميهم تقوى الله تعالى أولاً، ثم جرعة قوية من التربية الصالحة، وتقديم إعلام يرتقي بالقيم والسلوكيات الإنسانية، إعلام بديل عن إعلامنا الحالي، وتلفزيون الواقع الذي في غالبيته شرّ، وله إسهامات كبيرة في الانحطاط، ونشر الفساد في المجتمعات. - التجربة الماليزية لن أتحدث هنا عن تجربة "ماليزيا " في جانب التطور والصناعة، بل سأتناول كيفية تعامل الدولة مع الإعلام الفاسد، ومع القنوات الفضائية التي تبث ما يخالف قيم ومبادئ المجتمع الماليزي المسلم. أنشئت شركة " أسترو " لتزويد المشتركين بالقنوات الفضائية، وبالنسبة للمشتركين تقوم الشركة بحذف أي لقطة فيها إخلال بالآداب، أو مخالفة للقيم، أو إساءة للأخلاق، عن طريق تأخير بث بعض البرامج، فالأخبار يتم تأخير بثها (10) ثوان، والبرامج العادية يؤخرونها نصف ساعة، بهدف حذف أي إعلام فاسد. وفعلهم هذا ليس تحكماً سياسياً، أو تعدٍ على حريات الناس واختياراتهم، بل ضبط للأخلاق، لأن الحرية الفكرية مطلقة، لكن الأخلاق يجب أن تضبط بالتقوى والقانون، ويعاقب من ينحرف عنها، فنحن نريد حضارة إسلامية منفتحة فكرياً وحضارياً وسياسياً، لكن الجانب الأخلاقي لا بد من أن نضبطه بقدر الاستطاعة. - حضارة الإسلام أعجبتني كلمات للبروفيسور " إفرنج " الأستاذ في جامعة تينيسي (Tennessee) الأمريكية وعلمت أنه أسلم، يقول للمسلمين ناصحا " إنكم لن تستطيعوا أن تنافسوا الدول الكبرى علميًا، أو تقنيًا، أو اقتصاديًا، أو سياسيًا، أو عسكريًا، ولكنكم تستطيعون أن تجعلوا تلك الدول تجثوا على رُكَبها أمامكم بالإسلام، أفيقوا من غفلتكم لقيمة هذا النور الذي تحملون، والذي تتعطش إليه أرواح الناس في مختلف جنبات الأرض، تعلموا الإسلام وطبقوه، واحملوه لغيركم من البشر تنفتح أمامكم الدنيا، ويَدِنْ لكم كل ذي سلطان، أعطوني أربعين شابًا ممن يفهمون هذا الدين فهمًا عميقًا، ويطبقونه على حياتهم تطبيقَا دقيقًا، ويحسنون عرضه على الناس بلغة العصر وأسلوبه وأنا أفتح بهم الأمريكتين ". تعقيب حالياً أتفق مع البروفيسور " إفرنج " أننا لا نستطيع منافسة الدول الكبرى، لكن بعد (٢٠) سنة نستطيع بإذن الله تعالى. عندنا استعداد كامل لبناء الحضارة، لكننا لا نريد أن نبنيها على نفس التصور الذي يقرؤه الناس في الكتب، لأن العالم من حولنا تغير، هناك ثوابت وأصول لا مجال للاجتهاد فيها، وهناك قضايا ومسائل يمكن الاجتهاد فيها، بما يحقق مقاصد الشريعة، ولا يتعارض مع ثوابت ومقومات الحضارة الإسلامية. حضارتنا تمنح الحقوق لكل مكونات المجتمع، تمنح المحفزات للعلم والإنجاز، حضارة تتعاون مع المسلم والكافر ... فيما نتفق عليه، ولا يخالف ثوابتنا ومبادئنا، حضارة أساسها العمل الجماعي لبناء حضارة تسعد بها البشرية.