15 سبتمبر 2025
تسجيلثار جدلٌ كبير حول علاقة الرواية بالتاريخ، أو تناول الرواية لأحداث معينة من التاريخ! وهل يتحوَّل الكاتب الروائي إلى شاهد عيان يستحضر الماضي بشكله الجامد ومسلماته الجاهزة؟ إن للتاريخ قوانين وأنظمة لا يجوز العبث بها، ولكن عندما نتحدث عن الرواية التاريخية فنحن لسنا بالضرورة نحتكم إلى تلك القوانين والأنظمة! بل نمارس نوعاً من الحرية الأدبية التي تتيح للكاتب نشر شخصياته داخل النص، وإن كان في فضاءات الماضي، ضمن الأطر المعروفة، حتى وإن غادر التاريخُ الحقيقي النصَّ المكتوب. يشير الناقد وعالم السرديات الدكتور عبدالله إبراهيم في تمهيده لكتاب (الرواية والتاريخ) إلى ما حدَّده (جورجي زيدان) من أننا "لا نريد بالرواية التاريخية أن تكون حجةَ ثقة يُرجع إليها في تحقيق وتمحيص الحقائق، ولكننا نريد أن نمثل التاريخ تمثيلاً إجمالياً بما يتخلله من أحوال الهيئة الاجتماعية (المجتمع) على أسلوب لا يستطيعه التاريخ المجرد إذا صبرَ الناسُ على مطالعته.. فإن جُرّدتْ روايتنا من عبارات الحب ونحوه، كانت تاريخاً مُدققاً يصحّ الاعتماد عليه، والوثوق به، والرجوع إليه، وإن كنا لا نطلب الثقة بها إلى هذا الحد، وإنما نعرف لها مزّية هي تشويق العامة لمطالعة التواريخ بإطلاعهم على بعضها على سبيل الفكاهة". (د. عبدالله إبراهيم، الرواية التاريخية، ص 12).أما واسيني الأعرج – وفي نفس الكتاب – فيرى أن الكتابة الروائية للتاريخ لا تعني "الاعتداء على حرمة المقدس، المُسلم به"، حيث تمت مصادرة نصه (ما تبقى من سيرة لخضر حمروش)، (1984) لأن الكاتب اتخذ من حادثة اغتيال (عبان رمضان) موضوعاً للرواية، ولم يتم وقتها الاعتراف بحادثة القتل. ولكن بعد أكثر من عشرين عاماً، يؤكد الرئيس الأسبق أحمد بن بيلا – في قناة الجزيرة- ضلوع بعض قادة الثورة الجزائرية في اغتيال (عبان رمضان)، مبرراً الأسباب بالحفاظ على وحدة الثورة، التي كانت تهددها تصريحات (عبان رمضان)، الذي طالب بضرورة فصل القيادة العسكرية من حيث المسؤوليات عن المؤسسة السياسية المدنية. وبمعنى آخر أن بطل الرواية قد دخل التاريخ عبر حادثة قتل حقيقية، ولكن الحكم آنذاك كان للسلطة السياسية التي صادرت الرواية!؟ (المصدر السابق، ص 26).فهل يصحُّ للكاتب الروائي التدخل في أحداث التاريخ؟يرد على هذا التساؤل هيم حسين في كتابه (الرواية والحياة)، عندما ذَكر اتجاهَ بعض الروائيين الذين رَوَوا سير شخصيات تاريخية بالقول: "الروائي الفرنسي (فريدريك تريستان) المولود في مدينة (سيدان) الفرنسية،1931، والحائز على عدة جوائز أدبية هامة، منها جائزة غونكور 1983، يتخذ من جريمة مقتل الرئيس الأمريكي الأسبق (جون كينيدي) خلفية يبني عليها روايته (دوامة المجانين)، ولا يقيد شخصياته بما قيل عن الجريمة إعلامياً، بل يُفسح لها المجال كي تُدلي بدلوها وتقدِّم مقترحاتها وآراءَها حول الحادثة". إن ابتعاث الشخصيات التاريخية ليس عملاً إجرامياً في الرواية التاريخية، وللكاتب الحق في تصوير شخصياته – حسب رؤيته – لا كما تم تصويرها، وهنا يجنح الروائي إلى تقديم شخصياته روائياً لا تاريخياً.ويرى بعض النقاد أنه لا يجوز محاكمة الروائي على أسلوب وطريقة تقديمه للشخصيات التي اختلقها في الرواية! كما أن (النقل التصويري) للأحداث لا يشكل رواية تاريخية بالمعنى الفني للرواية! ومثل ذلك العمل الدرامي التاريخي، والذي لا يمكن أن يكون صورة للماضي أو صورة للحاضر، "ذلك أن العمل التاريخي يعاود الرجوع إلى الماضي، ينبش فيه، يستقي منه العبر، يمارس الإسقاط الواعي المدروس، ويتنبأ، تبعاً لمعالجته الفنية، للآتي، برؤية فنية، وتبعاً لتصورات فريق العمل، وانطلاقاً من رؤية كاتب النص ومُعده، الذي يشكل حجر الأساس لأي عمل، وتكون مهمة الكاتب هنا – في العمل التاريخي – شاقة ومغامرة، عليه أن يقوم بدور المؤرخ، دون أن يتحلى بتحيّده الظاهر، لأنه ينطلق من تبني وجهة نظر بعينها، كما عليه أن يحرص على تجيير الواقع والأحداث في قوالب درامية تتضمن التشويق، معتمداً على حبكة متينة ومشغولة بعناية ".. (هيم حسين، الرواية والحياة، 67-68).ومن الأسئلة المثارة في كتابة الرواية التاريخية، هل يكون الروائي مؤرخاً للعصر!؟ وهل يُطلب منه أن يتحلى بمصداقية المؤرخ وموضوعيته؟ أم أن الرواية تفسح له المجال للتلاعب بالتفاصيل والمصائر والجزئيات؟ هل يفضل الأمانة على البراعة؟ وهل هنالك تناقض وصراع بينهما؟ هل تكون الدقة معياراً لنجاح العمل الروائي؟ أم تكون الحرية هي الشرط الأوحد الذي يتقيد به الروائي ويستند عليه؟ هذه بعض الأسئلة التي طرحها (هيم حسين) – المصدر السابق. وهنالك وجهة نظر لا تؤيد أن يكون الروائي حَكَماً وقاضياً على أحداث الماضي، بقدر ما هو شغوف بالنواحي الفنية في روايته! وبالفعل، فإن البراعة هنا تطغى على الأمانة، لأن الروائي ليس مؤرخاً أو مصوراً لأحداث التاريخ! وبالطبع، فإن حرية الروائي يجب أن تتجاوز الدقة أو صرامة التاريخ، وتُحلق في الفضاءات التي خلقَها الروائي داخل النص. كما أن الروائي غيرُ مُطالَب بتقديم كشف حساب حول شخصياته وأفكارهم وسلوكياتهم، وتصوَره للمكان والزمان، ولا يجوز أن يُحاكم الكاتب الروائي على " صناعته" للأحداث، لأنه – كما تقدم – لا يتلو علينا درساً من دروس التاريخ، بقدر ما هو يقوم بتقديم عمل فني أدخله في زمان معين!