30 أكتوبر 2025

تسجيل

الرحلات الإغاثية الميدانية ..ليس من رأى كمن سمع

19 مارس 2015

مثل عيادة المرضى فإن الزيارات الميدانية لمواقع الكوارث ومواضع النكبات كمخيمات وتجمعات اللاجئين والنازحين ذات أهمية كبيرة، فهي إضافة لدورها في ترقيق القلوب تحقق فوائد متعددة " فليس من رأى كمن سمع " كما يقال. عقب زيارة أخيرة لأحد المستشفيات على الحدود التركية ـ السورية شاهدنا فيها ـ بمعية وفد إغاثي كبير ـ حالة طفل صغير لا يتعدى عمره عشر سنوات، يمشي بواسطة طرف اصطناعي بعد أن بترت قدمه بسبب شظايا قذيفة دبابة، قال لي طبيب مشارك في الوفد: كنت أظن أنني كطبيب جرّاح سأكون أكثر تجلدا عند رؤيتي للطفل ولحالات مشابهة رأيتها بالمستشفى، لكنّ عينيّ لم تستطيعا حبس دموع انهمرت منهما.. دموع ألمٍ لأنّ الحرب تسببت في أن يفقد قدمه دونما ذنب اقترفه ، ودموع فرح بعد أن سمعته يقول "الحمد لله" عقب تركيب قدم اصطناعي له ، وقدرته على ممارسة هوايته المفضّلة (اللعب بالكرة) وصبره على مصابه. لا ينبغي أن تنحصر زيارة ميادين الأزمات على العاملين في مجال الإغاثة والمؤسسات الإنسانية دون غيرهم من الشرائح الأخرى ، ولا على الكبار دون الصغار ، بل لعلّ الأوْلى بهذه المهمة هم الفتيان والشباب لاعتبارات كثيرة، ولا على الرجال دون النساء، فالنساء شقائق الرجال وهن شريكات لهم في هذا الأمر، بحسب ظروفهن وإمكانياتهن.أتمنى أن تتاح هذه الزيارات للجميع لأنهم بحاجة ماسّة إليها كما هي حاجة المستفيدين (المتضررين)، وباستثناء الأطباء والإعلاميين سأركز على بعض الشرائح النوعية بصفة أكثر تحديدا، نظرا لدورها وحجم إفادتها : ـ المحسنون والمتبرعون: لرؤية ثمرات بذلهم، والفرق الذي تحدثه تبرعاتهم في حياة الناس أفرادا وجماعات، ولكي يتم تشجيعهم وحفزهم على تقديم مزيد من التبرعات. ـ الأدباء والفنانون والكتاب والدعاة للإسهام في إنتاج مواد إبداعية مختلفة، تسهم في التوعية، وإبقاء القضايا الإنسانية حيّة في ضمائر الشعوب العربية والمسلمة، وإحياء شعور " إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " ـ الأطفال والفتيان والفتيات الذين يمكن أن يكونوا بصحبة أسرهم ، أو تنظم لهم رحلات بالتعاون بين جهات تربوية ونواد من جهة وبين المؤسسات الإنسانية من جهة أخرى، بغرض غرس قيم العمل التطوعي ومباشرته في نفوسهم منذ نعومة الأظفار، وترجمة هذه القيم إلى سلوكيات عملية إيجابية ، واستحضر في هذا المجال ما كان يقوم به الدكتور عبد الرحمن السميط رحمه الله كأحد رواد العمل الخيري الخليجي والعربي وكنموذج في التربية الأسرية ، حيث كان من عادته أن يصطحب أهل بيته من زوجة وأبناء في مثل هذه الرحلات، ولعل من حسن الطالع أن يكون في زيارتي الأخيرة لمخيمات اللاجئين السوريين طفل في العاشرة من عمره وفتى آخر في الخامسة عشرة من عمره، مع الفريق القطري وقد اصطحبهما أبوهما معه، وأعجبني حماسهما واستعدادهما للمجيء مرات أخرى رغم المشاق التي تكتنف مثل هذه الرحلات في العادة، وقد أتيح لي قبلها الاطلاع على تجارب أخرى مشرّفة رغم قلتها وندرتها.وبالنسبة للفتيان والشباب فإن هذه الرحلات تسهم في تعويدهم على التطوع بالجهد والوقت واكتساب الخبرات وتنمية القدرات وشغل الوقت بالنافع المفيد، وتعويدهم على الصبر والتقشف ومواجهة الصعاب والعمل تحت الضغط وفي الأزمات وتحمل المسؤولية والانشغال بمعالي الأمور ( هموم الأمة ومآسيها ) لا بتوافهها، ولعل همة الشباب وعزيمتهم تجعلهم الفئة الأكثر جدارة بهذا العمل الجليل ..ومثلما تقام لهم مخيمات للكشافة والجوالة فإنه ينبغي أن تقام لهم مخيمات للإغاثة ليشاركوا في التدخل الإنساني السريع، وفي المجمل فإن هذه المشاركات ستسهم في دمج الشباب في العمل التطوعي، بتأثيراته التنموية المادية والمعنوية الأخلاقية. ـ النساء لأنهنّ أقدر من غيرهن على تلمس حاجات النساء المنكوبات ومخاطبتهن في الميدان، كما أن الكثير من المشتغلين بالدعوة ومن المحسنين هم من النساء ونسب التبرع في صفوف النساء والنشاط في هذا الجانب مرتفعة كما تشير التقديرات على الأقل في منطقتنا العربية والإسلامية... ومعلوم أن النساء منذ مهد الرسالة الإسلامية قمن بأعمال الإسعاف والإغاثة في الحروب وغيرها ( الطبابة وتضميد الجراح وسقيّ الماء للجرحى) ولا شك أن الزيارات الميدانية للجمعيات الخيرية تضم أحيانا نساء يكنّ بصحبة أزواجهن وآبائهن ومحارمهن ، وهذا ما لمسته في عدة زيارات قمت بها، بما في ذلك رحلتي الأخيرة ، ولكن يبقى الأمر محدودا بفعل الصعوبات اللوجستية وظروف النساء الأسرية ، ولكن مشاركتهن في العموم دون ما هو مأمول، ربما بفعل العادات والتقاليد وعدم أخذ المرأة لدورها الحضاري الريادي. يسجّل لجمعية قطر الخيرية أنها استطاعت الإبداع في هذا المجال أكثر من غيرها، من خلال مبادرة "المتنافسون" التي استثمرت نجومية أبناء المجتمع القطري، ليكونوا مسوقين للعمل الإنساني، ولكن بعد أن قامت بأمرين الأول هو ترتيب زيارات ميدانية لهؤلاء الأشخاص لرؤية واقع اللاجئين السوريين عن كثب في تركيا والأردن أولا، ليكونوا أكثر إقناعا لغيرهم في شرح المعاناة الإنسانية للاجئين ومن ثم استقطاب التبرعات لصالحهم ، ثم تنظيم زيارات لاحقة ليروا آثار ما جمعوه من تبرعات ، وقد أصبح مجسدا على أرض الواقع يسهم في رسم البسمة على وجوه الأسر المتضررة وأبنائها ويدخل السرور على قلوبهم .