26 أكتوبر 2025
تسجيلفي محل الورد الصغير الذي يقع أسفل البناية التي أسكنها في مدينة الضباب لندن، كانت الاستعدادات بكمية كبيرة من الورد الذي لم يتفتح بعد، وكتبت على جوانب المحل جملة تقول (هل استعددت لتقدم الورد في يوم الأم). قرأت الجملة ومشيت أكمل طريقي بإحساس الحزن الطاغي، بعد أن أصبح ورد يوم الأم في عيني فيضا من حزن، وبعد أن عاد لي يوم الأم حزينا بلا أم. وانسابت دموعي في لحظة حين تذكرت أن الورد في لندن خاصة يجعلني أكثر حزنا حين كانت آخر محطات العمر ومكان آخر لحظات لأنفاس أمي في الحياة. هنا في لندن عاد الربيع يا أمي، لكن رحيلك أعاد لي الشعور القاسي باليتم، وعجبا كيف لون حزني عليك كل ألوان الربيع بألوان قاتمة. مشيت في الطريق ولا أصدق أن قدميك قد مشتا في نفس هذا الطريق يوما، ليتني يا أمي أستطيع أن أقبل كل الأماكن التي وطأتها قدماك. هنا أحسست بأنني بعيدة وعادني شعور الغربة القاسي، لمجرد أن ابتعدت عن خزانتك التي اعتدت منذ رحلت أن أزورها من حين لآخر، اشتقت لأن أفتحها كعادتي وأقبل عباءتك، ألتف بها وأشم رائحة العطر العتيق، وأبكي كثيرا كل ما حبسته من عبرات داخلي. أتذكر عندما بكيتك عند رحيلك وكيف كانت كلمات العزاء تؤكد لي أن مرور الأيام كفيل بأن يداوي كل الجروح ويصاحبنا مع النسيان، لكن ثلاثة أعوام مرت على رحيلك عرفت فيها أن مرور الوقت والأيام، إنما ينفض فيني كل ذكرى، ويجعل تقديري لك أكبر، وحزني عليك أعظم. كبرت يا أمي وما زلت أتذكر كيف غمرتني بالحنان، أتذكر قصص الطفولة التي كنت تروينها لي كل ليلة، ما أعظم صبرك وأنا أطلب منك التكرار، فتكررينها بحب ولا تملين وكأنك تقصينها لي لأول مرة. كبرت يا أمي وما زلت أحتاج بقوة لأن أمسك بطرف عباءتك، وأمشي وراءك طوال اليوم كما كنت يوما، كي أشعر بالأمان. كبرت يا أمي وما زالت داخلي تلك الطفلة الصغيرة جدا التي تلهو قليلا باللعب ثم تلتفت لتطمئن على وجودك بقربها في مكان ما في البيت، ومع اني كبرت لكنني ما زلت كما كنت، فما أن تلهيني الحياة قليلا، حتى أعود لأتذكرك وأحترق شوقا لوجودك. لا أستطيع يا أمي أن أنسى أيامك الأخيرة في الحياة حين كنت أتمدد بجانبك على السرير الأبيض حين أمازحك وأطلب منك أن تغمريني بجرعات من حنانك، فتضحكين وتضمني يداك، ثم تفضحني دموعي الغزيرة حين احتضنك بقوة، فتسأليني الكف عن البكاء وتؤكدين لي بأنك ستكونين بخير، لكنني كنت أعلم ما لا تعلمين عن حقيقة مرضك، وأعلم أن أيامك في العمر معدودة، وأنني سأفقد دفء حنانك إلى الأبد. وبعد كل ما مر من وقت وأعوام تأكدت أن ليس هناك ألم في الدنيا يوازي آلام الفقد. حتى السماء يا أمي بدأت تمطر من غيمة سوداء، وكأنها تشاركني حزني على رحيلك، ولا أملك الآن سوى أن أفعل ما كنت تفعلين حين يهطل المطر، حين ترفعين يديك الغاليتين كي تغمرينا بالدعوات لنا من قلبك بحب خالص نقي هو أعظم حب في البشرية، أرفع يديي أنا الآن لأهديك أعظم الدعوات بالرحمة والمغفرة وجنات النعيم. ومن وحي حب أمي أهدي لكل الأمهات وردة حب وامتنان في يوم الأم، وأسأل الله لهن دوام الصحة والعمر المديد. وأسأل الله تعالى أن يرحم أمي وكل من غاب من أمهات المسلمين رحمة واسعة، وأن يسكنهن فسيح جناته.