14 سبتمبر 2025

تسجيل

غاب عملاق الصحافة العربية عن دنيانا

19 فبراير 2016

امتدت يد القدر لتختطف من بيننا عملاق الصحافة العربية الأستاذ محمد حسنين هيكل، غاب عنا بجسده وإلى الأبد لكنه ترك بين أيدينا ثروة قومية لا تقدر بثمن، ترك للأجيال القادمة سجلا تاريخيا لا غنى للباحث في علم التاريخ والسياسة عن وقائع التاريخ والسياسة للنصف الأخير من القرن الماضي أو أكثر. أسس لنا وللأجيال القادمة مدرسة للصحافة العربية لن تستطيع أي قوة في الأرض تدمير تلك المدرسة مهما حاولوا.(2)تعود معرفتي الشخصية بالأستاذ هيكل إلى عام 1963، زرته في مكتبه في صحيفة الأهرام في معية الشيخ عبد الله الطريقي رحمه الله، وهو أول وزير للبترول والثروة المعدنية في المملكة العربية السعودية، لكنه ترك الوزارة مع مجموعة من الوزراء السعوديين لخلاف شب بين الملك سعود وولي عهده الأمير فيصل (الملك فيما بعد) ودار بين الشيخ الطريقي والأستاذ هيكل حوار حول البترول العربي، وهيمنة شركات البترول الأجنبية، وعن أحوال الشام المضطربة في ذلك الزمان بعد انهيار الوحدة بين مصر وسوريا، والحرب في اليمن بين الملكيين والجمهوريين، وكانت مصر طرفا في تلك الحرب إلى جانب الجمهوريين، وشمل الحديث رؤية مستقبلية عن أوضاع الخليج العربي وأوضاع المملكة والخلاف بين أفراد الأسرة الحاكمة في الرياض. كنت أكتب المحضر، التفت هيكل إلي وقال مداعبا: نحن نتحدث بسرعة هل استطعت أن تكتب كل كلمة قلناها؟ قلت أعتقد أنني كتبت الأهم فيما قلتماه، وقال: هؤلاء الشباب الذين نراهن عليهم لمستقبل الأمة بعد مداخلة من الشيخ الطريقي. عندما انتهينا من الحديث ووقفنا استئذانا بالانصراف، سار معنا خطوات إلى خارج مكتبه وسلمني محضر الجلسة كاملا، قائلا راجع ما كتبت مع نص المحضر هذا.قدر لي أن أراه مرة أخرى في عام 1969 في لندن ضمن طلاب من اتحاد الطلاب العرب في بريطانيا، بادرني بالقول: ألم نلتق في القاهرة في صحبة الشيخ عبد الله الطريقي وزير البترول السعودي السابق؟ قلت بلى، وأهنئك على ذاكرتك القوية، ودار مع هيكل حديث مطول معنا نحن الطلاب وعددنا خمسة أشخاص أذكر منهم نوري البحراني من العراق الذي كان رئيس الاتحاد العام للطلاب العرب في المملكة المتحدة وأيرلندا وآخرون من الطلاب المصريين، وكان حديثنا يدور حول حرب الاستنزاف والحرب بين الفدائيين والجيش الأردني وغير ذلك من الهموم العربية. كان هيكل يتحدث إلينا وكأنه يقرأ من صفحات كتاب تاريخي عن مصر محمد علي ومصر عبد الناصر، عن الوحدة بين مصر وسوريا والانفصال، عن محادثات الوحدة الثلاثية بين العراق وسوريا ومصر وأسباب فشل الوحدة.(3) كنت أعمل في الوفد الدائم لدى الأمم المتحدة في نيويورك، وعلمت أن هيكل وصل إليها، ذهبت إليه لتحيته ودعوته للعشاء هو وزوجته الكريمة، فوافق وطلب مني أن أدعو من أستطيع من السفراء العرب، وقلت له: لك ما أردت. وجهت الدعوة أولا إلى الأخ والصديق الدكتور حمد الكواري مندوب قطر في الأمم المتحدة في نيويورك، وقلت له ضيف الشرف سيكون محمد حسنين هيكل وزوجته، قال أبو تميم في أدب جم: بيتك صغير، واسمح لي بدعوته نيابة عنك وسندعو بعض السفراء العرب، كنت أعتبر بيت السفير القطري بيتي فوافقت على أن يكون اللقاء في منزل الصديق الدكتور حمد الكواري، وصارحت هيكل بما حدث وأن اللقاء سيكون هناك، تفهم هيكل ووجه الدكتور الكواري الدعوة إليه والتقينا، ودار بينه ومعشر السفراء العرب حوار، قال في بدايته: أنا جئت لأستمع منكم ماذا يجري في هذه المدينة الصاخبة وفي رحاب الأمم المتحدة، والحق أنه كان يعرف ما يجري في المدينة ومبنى الأمم المتحدة وكواليسها أكثر مما نعرف. (4) تدور الأيام دورتها وأقيم في الدوحة، ويقدر لي أن أقدم برنامجا متلفزا وهو"حوار في قضية" إبان الأزمة الكارثية احتلال الكويت، ومع الأسف لم يكن تلفزيون قطر في ذلك الزمان فضائيا ليصل إرساله إلى أرجاء العالم العربي، وكان من بين ضيوفي البابا شنودة وشيخ الأزهر والفريق محمد فوزي وعصمت عبد المجيد، وقد وصلته تلك المقابلات مسجلة على أشرطة (في، إتش، إس) وعرفني في تلك الحوارات الجريئة جدا بمقاييس ذلك الزمان، والتقينا بلا موعد في لندن صدفة، وفاتحني في تلك البرامج الحوارية، وقال لقد أنصفت قطر البابا شنودة، لم يعطيه الإعلام المصري حقه ولم يعطيه الإعلام المرئي حقه، وكنتم في قطر السباقين إلى ذلك ساعة وربع الساعة والبابا شنودة على الهواء صوت وصورة، وأعتقد أن الأقباط في مصر كانوا سعداء بتلك المقابلة، قلت له: لقد وصلتني ردود فعل إيجابية نحو تلك المقابلة من أقباط مصر.وهي الأقدار تقودني ويتم تعييني رئيسا لتحرير جريدة الراية في قطر، إلى جانب عملي في الجامعة وتقديم برنامج تلفزيوني أسبوعي "حوار في قضية" فعلم بتعييني في هذا المركز من أول افتتاحية للراية كتبتها بعنوان "تعالوا نتفق" فبعث لي برسالة قصيرة مهنيا ومشجعا وداعيا لي بالتوفيق، في رسالته تلك، وقال "حاسب يا محمد على نفسك أنت في حقل ألغام لا تعرف مسالكه".طلبت منه أن يكتب معي في الراية ولو مرة في الشهر، فاعتذر بأدب رفيع، واستأذنته في نشر كتاب له في حلقات وفعلا أعطى صحيفة الراية حق نشر كتابه وتسويقه على صحف أخرى، واستأذنت سعادة الأخ عبد الله بن حمد العطية العضو المنتدب في ذلك المشروع فوافق دون تردد.عندما بدأت الجزيرة بث برامجها على الهواء اتصلت بالأستاذ هيكل وطلبت منه الظهور على أحد برامج الجزيرة، وزرته في القاهرة لإقناعه بالمشاركة في أي برنامج يريده وله مطلق الحرية في كل ما يريد قوله، فقال لي:"معرفش هوية الجزيرة حتى الآن وعندما تتضح لي فإني سأتخذ القرار المناسب"، عرف هوية الجزيرة واستضافته لأشهر على شاشتها، وقدم لمشاهدي الجزيرة فكرا وثقافة وعلما وتاريخا وجغرافيا سياسية، إنه العالم المجرب محمد حسنين هيكل.(5) وبمحض الصدفة مرة أخرى وبعد مشاركته في الجزيرة التقينا في لندن، ودار بيننا حديث عن الجزيرة والإعلام والصحافة وقال: أنا معجب بالأمير حمد يعني سمو الأمير الوالد، لقد عرفته عن قرب ورأيته ملما بمخاطر المستقبل وزاد إعجابي بزوجته الأميرة (سمو الشيخة) التي ذهلت بسعة ثقافتها وإلمامها بالتاريخ، إنها والحق يقال لم تنشغل كغيرها من نساء ملوك البترول وأمرائه بالمكحلة والمرود والمرآة، إنها فاجأتني بسعة ثقافتها وعمق تفكيرها فهنيئا لكم في قطر بهذه القيادة. آخر القول: رحم الله محمد حسنين هيكل وتغمده بواسع رحمته.