23 سبتمبر 2025

تسجيل

السلطان قابوس.. والإرث الحضاري

19 يناير 2020

في الأسبوع المنصرم ودعت دول الخليج أحد الأعمدة المؤسسين لمجلس التعاون الخليجي ليلحق بركب المؤسسين الآخرين إلى الدار الباقية، تاركاً وراءه إرثا كبيرا من المعاني الخلقية والسلوكية ليكون قدوة لأبناء وطنه، ومثلا يحتذى به على مستوى العالم العربي، حكمة بليغة في تسيير دفة الحكم، دبلوماسية محنّكة، وحياد إيجابيّ، وعلاقات ودّية، صمت وهدوء، بلا نزاع ولا فوضى ولا تدخل في الآخر، ولا إملاءات خارجية افتراضية من القوى الكبرى الإقليمية والدولية، إنَّه السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور، سلطان عمان الحديثة، الذي أبكانا وأبكى شعبه بدموع حارقة، وقلوب جريحة، واستشعر العالم العربي برحيله بسقوط هرم قيادّي، ومرجعّية دبلوماسيّة، لها مواقف وبصمات سلمية في الكثير من الأزمات السياسية على الصعيد الخليجي والعربي، كيف يُنسى موقفه مع قطر في الأزمة الخليجية، ودعوته للحوار، أو يُنسى دور شعبه التضامني مع الشعب القطري، كما هو دوره إبان الغزو العراقي لدولة الكويت الشقيقة، لقد ارتبط اسمه بالحيادية والسلام وعدم الانحياز، أمواج الربيع العربي نموذج، ورفض التدخل في حرب اليمن نموذج آخر، والكثير من المواقف السياسية التي مرت بها دول المنطقة الخليجية والإقليمية، وإيجابية دوره في حلّها وتجاوزها، ولا ينسى دوره الفاعل في الاتفاق النووي بين إيران والدول الغربية. وفاته أشعلت منصات التواصل الاجتماعي بهاشتاقات " السلطان قابوس بن سعيد " " وقابوس - بخير " " دولة _راسخة _ وشعب قوي " وغيرها والتي توشحت بالسواد والحزن، بعبارات وداع مؤثرة، لا تخلو من الثناء والمدح، والعهد بالسير على خطاه . …كيف لا ! خمسون عاماً من الحكم منذ عام 1970 كرّس عقله ومقدراته في بناء الدولة العمانية الحديثة المعاصرة، بركائز ثابتة، أهمها الاستقرار والأمن اللذان هما الأساس للتنمية والتطوير، واللذان تفتقدهما معظم شعوب دول العالم العربي اليوم مع أنظمتها، حافظ على أمن بلاده في منطقة محفوفة بالمخاطر والأزمات، ثم بناء الإنسان العُماني وتطويره فكرّيا وثقافيًّا وتعليمّياً وسلوكياً، لإيمانه بأنه الدينامو المحرك لقيام الدولة الحديثة المعاصرة. من يذهب إلى عمان يلمس مظاهر السلوك والأخلاق العُماني بشهادة المتعاملين معهم اجتماعيا، وما تربط بينهم من علاقات تجارية واستثمارية، كما يلمس الفكر العُماني المثقف في التخاطب والتعامل والاحترام مع الآخر، ومعهما يلمس الوجهة السياحية العمانية في مد الجسور، وشق الطرقات الجبلية السلسة، والإرث الثقافي المتمثل بدار الأوبرا السلطانية وغيرها . رحل قابوس ومظاهر الحزن والألم جاثمة على محيّا الشعب العُماني، وستبقى في الذاكرة، فعلاقة السلطان قابوس مع شعبه تجاوزت مرحلة الحكم إلى مرحلة الصيرورة والانتماء للأرض والوطن، وتؤكد حجم الارتباط الوجداني الصادق بين الحاكم وأبنائه. حب ووفاء وصدق وعطاء وبناء، والكثير من تفاصيل الانتماء للوطن الواحد والشعب الواحد، مرحلة خمسين عاما من الإنجازات لبناء الحاضر الجديد والمستقبل الزاهر، وبناء الإنسان الراقي بفكره وعقله وسلوكه، ليس سهلا في وجدان وذاكرة الشعب العُماني، الذي يردد العهد الذي قطعه قائدهم على نفسه باكرا " سأعمل بأقصى ما يمكن من أجل أن تعيشوا سعداء " والذي يأمل أن تأخذ السعادة مجراها مع العهد الذي يقوده خليفته الذي اختاره ليسير على خطاه السلطان هيثم بن طارق بن تيمور حفظه الله ووفقه، ليكون خير خلف لخير سلف . ويكمل مسيرته النهضوية المعاصرة، وتبقى عمان كما هي عليه في جميع تفاصيلها وتطلعاتها ومستقبلها ونهضتها وسياستها وسمعتها. رحم الله السلطان قابوس وطيب ثراه بالمغفرة والرحمة، ما مات من خلّف إرثاً جميلاً طيباً، وشعباً وفياً يحظى بالتقدير والاحترام، والسمعة الطيبة، لكنه الموت الذي لا يعرف زمانا ولا مكانا، ولكل أجل كتاب، تعازينا للشعب العُماني وللأمة العربية والإسلامية . [email protected]