17 سبتمبر 2025
تسجيلعندما يذهب أحدنا للاستماع إلى خطبة الجمعة أو أي خطبة دينية أخرى، يكون عقله الباطن محملا بقيم العرف الاجتماعي واعتبارات المجتمع الذي يعيش فيه، هو لا يأتي للمسجد من فراغ، لذلك تتخذ الموعظة سبيلين، الأول أن تتماشى مع ما تعارف عليه المجتمع من عرف وأخلاق سائدة، وتعرض على المستهجن منها لا بنفيه وإنما بإصلاحه تحت عنوان كبير وعظيم هو "تقوى الله". والثانية أن تتصادم مع ما هو قائم من خلال الطرح الطوبائي، الأمر الذي يحدث أزمة نفسية لدى المستمع، كأن يشير أحدهم إلى رذيلة جمع المال، وأن الله يحب الفقراء من عباده، وما إلى ذلك من هذا الطرح الطوبائي. والإنسان حينما يستمع إلى مثل هذا الطرح الذي يعظه بترك الدنيا الخلابة يمسي مضطربا، فضميره يأمره بإطاعة هذا الخطيب، ونفسه تجذبه نحو الدنيا، ناهيك عن تطور وارتباط مثل هذه الدعوة الطوبائية بأيديولوجيا تحققها أو تضع الطريق لتحقيقها. كيف أمكن التعرف على تأثير ذلك في مجتمعنا القطري الصغير؟ أولا: أعتقد أن غياب المجتمع المدني في قطر بل في معظم المجتمعات العربية، أدى إلى بروز دور الخطيب والخطابة الدينية لتملأ الفراغ الناشئ تبعا لذلك. ثانيا: مر مجتمعنا الصغير بثلاثة أنواع من الخطباء حتى الآن، الخطيب الفارسي "من فارس" والخطيب الأزهري، والخطيب القطري مؤخرا. ثالثا: الصراع في مجتمعاتنا هو بين قيم البداوة وقيم الإسلام منذ مجيء الإسلام حتى اليوم، فالخطيب عليه أن يراعي ذلك، ويعيه تمام الوعي، فالعقل الظاهر عقل إسلامي، لكن العقل الباطن هو عقل بدوي قبلي. رابعا: الخطيب هو ابن بيئته، لذلك المجتمعات التي لا يكون خطباؤها من أبنائها عرضة للعصف وللتأثيرات النفسية السلبية، نتيجة لذلك. خامسا: خطباء المساجد من أهل فارس في الستينيات، نشأوا من داخل المجتمع ومن خلال تقربهم من الشيوخ، وحفظهم للقرآن أصبحوا أئمة للمساجد، فأجندتهم الوعظية لم تكن تتعدى تقوى الله والحث على الفضائل، في توافق تام مع نفسية المجتمع السائدة. سادسا: مع قدوم الواعظ والخطيب الأزهري، اختلف الوضع، حيث بدأت الخطبة تلتقي مع ما تواجد في المجتمع من أعراف وتقاليد، وتختلف معها أحيانا وهذا طبيعي، لكن أجندة الإصلاح كانت تختلف عما سبق، من مجرد الدعوة لتقوى الله، لذلك لاحظنا لأول مرة تفضيل مسجد على مسجد، وتزاحم المصلين في مسجد دون مسجد آخر، منهم أساتذة وعلماء أفاضل استفدنا منهم، لكن قليلا منهم تفاعل مع المجتمع انطلاقا من خصوصية المجتمع، لا من منهجه وطريقته وتياره الذي يتبناه . سابعا: ما يهم هنا هو دخول المجتمع مرحلة الصراع والاعتمال النفسي الذي لم يكن سائدا من قبل، خاصة لدى النشء الجديد الذي يسمع شيئا ويرى أشياء أخرى، فالخطب الطوبائية التي تجعل من المسلم حالة ملائكية تفصل نفسه عن جسده فيعيش الاضطراب. مع دخول الفضائيات، ساء الأمر أكثر وانفتح المجتمع على سيل من الخطب، فأصبح الأمر يحتاج إلى قراءة جديدة ومراجعة طويلة لدور الدين في المجتمع. ثامنا: الطرح الطوبائي الذي يمارسه الكثير من الخطباء قولا ويمارسونه ضده في المجتمع زاد الطين بلة، مما يفقد النشء الثقة في البرنامج التوعوي كله وبدور المسجد، حدث كما قيل لي أن أحدهم كان يحدث عن عدم جدوى السلام بالأنف والاكتفاء بالمصافحة، فلما دخل المكان أحد الأعيان قفز إليه مقبلا أنفه ورأسه، وآخر كان يحدث يوميا في حضور الشيخ، وعندما غاب الشيخ امتنع عن الحديث والوعظ. تاسعا: الخطيب الحقيقي لا يضع المستمع في حيرة، بين عقله وقلبه، أو بين ذاته ومجتمعه، ليس الإنسان ملاكا، وجميع الصفات المستهجنة صفات إنسانية كالحسد والحقد والشهوة وحب المال والنساء والطمع وغير ذلك، فالتعامل معها ليس بنفيها والتخلص منها بقدر ما هو بتهذيبها، فهي منا والحل أن لا تنقلب علينا. عاشرا: بين الوعظ الأفلاطوني والوعظ الأيديولوجي احتارت مجتمعاتنا، فالوعظ الأفلاطوني سبّب ويسبب صراعا نفسيا، والوعظ الأيديولوجي أرسل بعض الشباب إلى التهلكة تحت شعارات براقة. أحد عشر: نتطلع إلى جيل من الخطباء والوعاظ من أبنائنا القطريين، الذين نشأوا ضمن العائلة القطرية داخل المجتمع القطري والذين هم أدرى وأقدر تلمسا لأحاسيس المجتمع من غيرهم . [email protected]