29 أكتوبر 2025
تسجيلوردت إلينا في الجامعات مكاتبات من التكية الهلالية تتحدث عن رغبة المقام العالي في تأليف اللجان العلمية الدائمة للترقيات في ثوب جديد، والمقام العالي مغرم جدا ومفتون جدا بمصطلح (رؤية) تماما كغرام الأخ معتز الدمرداش بمصطلح (cool)!! وكغرام أبو مازن بمصطلح "خارطة الطريق"!! و(الرؤية) الجديدة مؤداها أن يكتب كل أستاذ سيرته العلمية/العملية مفصلة ويرسلها عبر موقع المجلس ولأعلى للجامعات إلى (من يهمه الأمر)!! فتتألف من هؤلاء المرسلين – بكسر السين – قوائم المحكّمين، من الأساتذة القدامى المستوفين للشروط التي يجب أن تتحقق للأستاذ حتى يصبح محكَّما، في موعد كان معلَنا أنه ينتهي بغروب شمس الحادي والثلاثين من شهر مايو المبارك، ثم – لأسباب لم تُعلَن – تم تمديد الموعد إلى نهاية شهر يونيو 2008. فإذا اكتملت القوائم لدى (من يهمه الأمر) قام معاليه أو سموه أو فخامته أو سيادته أو جنابه أو دولته – بأساليب لم تُعلَن – باختيار بضعة نفر من تلك القوائم لتتألف منهم اللجنة العلمية الدائمة لكل تخصص على حدة. وكانت تتألف منذ خلق الله الجامعات بالأقدمية المطلقة فتتحقق بها العدالة جهد الطاقة، ولكن هذا النظام القديم القائم على الأقدمية خلا من السر الجديد الباتع الموسوم بـ (الرؤية)!! ونظرا لكوني مواطنا صالحا غِرًّا متفائلا مقبلا على الحياة بكل ما يليق بصعيدي من حسن ظن وسذاجة!!، فقد تقدمت بأوراقي عبر الشبكة (النت) إلى الموقع المذكور إلى (من يهمه الأمر)!! لأظفر بحقي الذي سلبوني إياه منذ سنوات طوال –لأسباب لم تُعلَن – ظلما وعدوانا ولأسباب لما يحن بعد أوان فتح ملفاتها حتى لا تفسد (الرؤية)!! وكانت المكاتبة الواردة إلينا من التكية قد قالت إن من أراد أن يطمئن قلبه فليرسل سيرته عبر (النت) ثم يرسل منها نسخة ورقية مسحوبة مما أرسل على (النت)، ونظرا لكوني مواطنا صالحا غِرًّا متفائلا يتلقى تصريحات المسؤولين بوسواس شديد، فقد استنسخت مما (نتَّتُ) نسخة ورقية وأرسلتها مع مواطن لا يقل عني صلاحا وتفاؤلا وابتساما للحياة، وكانت المفاجأة لذلك البريء صادمة، وكانت الصدمة لذلك البريء قاتلة، فبعد سفر سبع ساعات بقطار الصعيد، وصل المواطن إلى المجلس الأعلى لتسليم أوراقي لـ (من يهمه الأمر) فوجد امرأة طروبا متفائلة أقبلت عليه بروح رياضية عالية قائلة في شخطة أوقعت قلب مبعوثنا البريء: "أين ختم النسر؟"، ارجع يا فتى من حيث أتيت وأبلغ من أرسلك أن (البلد مش سايبة) وأننا هنا في المجلس الأعلى للجامعات نتحدث عن الجودة والاعتماد والتطوير وتطوير التطوير وتجويد الجودة ولكن هذا كله لمجرد استدرار الملايين من الجهات الدولية التي تعجبها هذه اللغة، ويستهويها هذا الفكر، فإذا خلا بعضنا إلى بعض، فالتوقيع باهت، والخط غير واضح، وختم النسر غير موجود، والتمغة سابقة الاستعمال، وإيصال السداد غائب، والرسوم غير مكتملة.. إلى آخر هذا التراث البيروقراطي المجيد!! - ألم تقولوا إنكم يمكن أن تكتفوا بما أرسل عبر النت؟ سأل الفتى الغر الصالح المبعوث - بلى!! – أجابت المزمزيل ضاحكة ثم أضافت – وهل يرضيك أن نتسلم ورقاً خالية من ختم النسر؟ ونصدّق ما كتبه أستاذكم هو وزملاؤه (كده من غير اعتماد!!)؟ أليس من الجائز أنهم كذابون مدلسون يريدون أن يغرروا بنا؟ - إن معظمهم شيوخ أجلاء ولولا أن يُتهموا بالتقاعس عن واجباتهم لما تقدم منهم أحد إلى لجانكم هذه التي تؤلفونها بهذا الشكل المهين – بضم الميم – المذل (بضمها أيضا) ولاسيَّما أنهم يشاركون – كما هو حال من بعثني إليكم - في أعمال تلك اللجان منذ أربع عشرة سنة فيفحصون عشرة أبحاث في شهرين متتابعين أو يزيد مثلا، ثم يتقاضون عن فحصها ثمانية وسبعين جنيها وثلاثة قروش (وبعض الكليات تريح نفسها وتريح الفاحصين فلا ترسل هذا المبلغ أصلا خوفا على كبار الأساتذة من الفساد إذا ألهاهم التكاثر في مكافآت الفحص!!). - ولكن الحق أحق أن يتبع، والحق الذي لا يدانيه حق، هو أن الأصل في المواطن في بلادنا أنه كذابٌ نصابٌ مفترٍ مزوِّرٌ مدلسٌ غشاشٌ، يُكِنّ للحكومة كل بغض ويتربص بها الدوائر، ويريد أن يأخذ ما ليس له فيه حق، وخاتم النسر – وحده - هو الذي يميز الحق من الباطل، وشهادة الكلب (البوليسي) مقدمة في المحاكم والتحقيقات [كما لا يخفى على فطنتكم] على شهادة المواطن ولو كان هذا المواطن شيخا جليلا من شيوخ الأزهر، أو قسًّا كبيرا من جلة القساوسة. - فماذا عن الذين سيرسلون سيرهم (إلكترونيا) ولا يرسلون نسخة ورقية ممهورة بخاتم النسر؟ - هؤلاء سيظلون حيث هم مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء إلى أن تُرسل سيرهم لجامعاتهم فتراجع وتعود مزينة بالخاتم العزيز!! نقل إلينا المواطن الصالح الذي بعثنا به إلى العاصمة بالأوراق هذا الحوار، الذي أثار في النفس كثيرا من الشجن، المتعلق بهذا المستوى المتدني من الفكر الذي لا أجد له وصفا أبلغ من وصف الراحل الفنان يوسف إدريس بأنه لون من (فقر الفكر) وله شواهد أخرى خذ منها مثلا: - حين أثيرت مسألة (أن تبحث الجامعات لنفسها عن موارد ذاتية) لم تترجم جامعاتنا هذا المفهوم كما ينبغي أن تكون الترجمة، بحيث تلتحم كلياتها بالمجتمعات المجاورة لها، فتقدم استشاراتها العلمية وخدماتها البحثية وبرامجها التدريبية المتطورة لترتفع بوسائل الإنتاج كما هو الحال في كل الجامعات في الدول الأكثر تقدما، بل قعدت بجامعاتنا قدراتها الفقيرة، وتمخض فكر الفقر فيها عن أساليب بهلوانية لتنمية مواردها تصب كلها في خانة بائسة وحيدة هي (فقر الفكر)، فتبادلت عدم الاعتراف بشهادات التويفل لتتخذ منه موردا ذاتيا. - وقامت جامعات بتأجير الحرم الجامعي لشركات عرضت قمصان نوم ومشدات أثداء نسائية بصور واضحة فاضحة مهينة لكرامة أي آنسة أو سيدة تريد الشراء، وقامت جامعات بتأجير الحرم الجامعي لشركات تبيع خطوط الهواتف المحمولة، وقامت جامعات بتأجير الحرم الجامعي لشركات تبيع البدل الرجالي الجاهزة، وقامت جامعات بتأجير الحرم الجامعي لشركات تبيع أجهزة كهربية، أو دواجن، وغدا ستوجد جامعات تقوم بتأجير الحرم الجامعي لشركات تبيع الفياغرا وملخصات كتب الثانوية العامة وأنواع اللبان المثير وأحجبة الحصن الحصين. - وقامت جامعات بالتفنن في امتصاص دماء آباء الطلاب بالمغالاة في أثمان الكتب، أو بفرض تبرعات على كل – حتى!! - من يتثاءب من الطلاب!! - ومع ذلك فنحن إلى الأمام سائرون، في ظل سيادة (الرؤية) و(التطوير) وستصرف الزيادات – لمن يريدها - مشروطة بالولاء والخضوع وإلا فلا، وإن رغمت أنوف أدعياء حرية الجامعات واستقلالها، ومرضى حماية مجانية التعليم. وحسبنا الله ونعم الوكيل.