20 سبتمبر 2025

تسجيل

النخب العربية والتغيير في العالم العربي

18 أكتوبر 2022

بينما كان الاتحاد السوفيتي ينهار عام 1991، ويعلن رئيسه يومها ميخائيل غورباتشوف نهايته، وتفرّ الجمهوريات السوفيتية من القطار معلنة الاستقلال والتحرر، كان هناك من يفرّ من الأفراد أيضاً، لكنه فرار من نوع آخر، إنه فرار الإيديولوجيا التي طبعت حياتهم لعقود، وإن كان بجوهره فرار المصلحة والبحث عن المستقبل النفعي الخاص بعيداً عن الإيديولوجيا كما تبين لاحقاً. كنت أرقب ذلك بحكم تغطيتي للأحداث في باكستان، وهنا أتحدث عما يخص التداعيات السوفيتية على باكستان تحديداً، حيث كان حزب العوام القومي اليساري التوجه الذي أوصى مؤسسه عبد الغفار خان قبل موته بألاّ يدفن في باكستان على أساس أنها محتلة ومغتصبة من قبل أكبر أقاليمها وهو إقليم البنجاب، وبالتالي فقد كانت وصيته أن يدفن في أفغانستان، كونها بنظره حرّة، باستثناء وجود 220 ألف جندي روسي فيها!!، ودعم حلف وارسو لاحتلال روسي أتى على الأخضر واليابس لعقد كامل في ذلك البلد الذي كان يحكمه حزب شيوعي دموي، لم يرَ في ذلك كله عبد الغفار خان الشيوعي العتيد أي غضاضة أو محل للنقد والاعتراض. لو كانت القصة انتهت إلى هنا لكان الأمر طبيعياً شيئاً ما، لكن السؤال الذي سيسأله كل من قرأ الفقرة الأولى وهو إلى أين فرّ الحزب اليساري صاحب النظرية الأممية، لقد فرّ إلى من كان يتهم باكستان بالولاء له، متحوّلاً بذلك مائة وثمانين درجة، حتى كاد أو يقع على قفاه، غير عابئ بكل تاريخه وبوصية مؤسسه الذي دفن في جلال آباد شرقي أفغانستان بعيداً عن مسقط رأسه، بينما حواريوه وأتباعه قد استداروا للوراء دُرْ، يسبحون ويحمدون بمن كانوا يشتمونه بالأمس، والأعجب والأغرب من ذلك كله أن الأتباع لم ينبسوا ببنت شفه، ولم يناقشهم أحدٌ في ذلك التغير. اليوم ونحن نرى تهافت وتفاهة بعض النخب العربية في دعم الاستبداد العربي، أستذكر ما حدث في باكستان قبل ثلاثة عقود، ليبدو لي أمراً طبيعياً في تلك التيارات، المصرّة على الولاء للخارج مهما كان يسارياً أو يمينياً، ولو كانت نتيجته على حساب شعبها والقيم التي رفعتها لعقود. كثير من النخب العربية تحوّلت فجأة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي من اليسار ومعاداة الإمبريالية إلى معسكرات جديدة، ومنها معسكر الليبرالية نفسه. فأتت الثورات العربية لتفضح ذلك التيار أكثر فأكثر، بعد أن تخلى كثير من أربابه عن كل ما بشر به في الحوكمة والديمقراطية والتعددية والانتصاف للشعوب، ليصطف مع قامعي الشعوب. بعض شرائح هذه النخب آثرت في البداية الصمت والخرس تجاه ما يجري ضد الاستبداد، ظانة أن المعركة لأيام أو لأشهر، وربما في أسوأ الحالات لبضع سنوات ثم ينجلي الغبار، فتكون هي وتيارها الفكري وجماعاتها في مساحة أمان، ما دام من سيحصد هذا التغير بنظرها هي القوى الإسلامية المعادية لها، وهي التي ترى في الاستبداد وحكمه أقرب إليها من التيارات الإسلامية التي ستنافسها على الحكم، لكن حين طال أمد المعركة والمواجهة، وجدت مثل هذا النخب نفسها في موقف حرج حقيقي، فإما عليها الإنحياز إلى ما كانت تبشر به لعقود من الانتفاض ضد الاستبداد وحكم الفرد، وإما المحافظة على مصالحها الشخصية، بإبعاد منافسيها المحتملين عن السلطة، لتقرر في النهاية الانحياز إلى الاستبداد فدافعت عنه، منقلبة على كل ما بشرت به لعقود. ليس أمام القوى التغييرية الحقيقية في العالم العربي، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار سوى التعالي على الجراح، وعلى سلبيات الماضي، أملاً في الاتفاق على المشتركات العامة، وعلى رأس هذه المشتركات التخلص من الاستبداد، مع تعظيم المشتركات المتعلق بحرية الفرد وإقامة دولة العدل الحقيقية التي تتساوى فيها الفرص وتتكافأ للجميع....