11 سبتمبر 2025
تسجيلهناك قصة قرأتها منذ زمن للكاتب الروسي أنطون تشيكوف، وهي تتلخص في أن أحد كبار رجال الحكومة كان ذاهبا لزيارة أحد الجنرالات في مزرعته البعيدة، فوصل إلى محطة معينة، فلم يجد فيها إلا شخصاً واحداً، فسأله عن طريق الوصول إلى تلك المزرعة، فدله إلى مكان قريب يستطيع أن يجد فيه من يقودون العربات بالجياد، لكنه عندما وصل إلى ذلك المكان لم يجد سوى عربة واحدة فقط يقودها رجل غريب الشكل، يوحي بالخوف من ضخامة جسده، وتبدو عليه الشدة، عابس الوجه شرس، شبهه بالشيطان، ولكن لم يكن هناك خيار آخر فاضطر الرجل لأن يستقل عربته إلى المكان الذي يبعد عدة أميال، وكان الطريق الذي سلكه بين الغابات في ظلام الليل يزيد الرجل خوفاً، فبدأ يحاور سائق العربة ويهدده، بأن لديه من يتبعه ليضمن سلامته، وأن قوته لا تضاهيها قوة، وقد قتل أشخاصاً بالفعل، ويستطيع أن يقتله هو أيضاً في هذا المكان الخالي، وما كان من سائق العربة الذي كاد أن يموت هلعاً إلا أن ترك عربته وفر هارباً بين الأحراش، مما زاد من خوف الرجل، فبدأ يناديه ويبحث عنه ويقسم له بأنه لم يفعل ذلك إلا لأنه كان خائفاً من منظره، وأنه لا يستطيع أن يفعل أياً مما قال، وأخيراً ظهر سائق العربة المختبئ من خلف إحدى الأشجار، وقال له بأنك أسوأ رجل رأيته، ولو لم نكن في هذا الظلام الدامس لما كنت أخذتك معي ولو خطوة واحدة، ولو أعطيتني أكبر مبلغ أراه في حياتي. وما كانت ترمي له قصة تشيكوف تلك يمكن أن يتلخص بأننا يجب ألا نحكم على الآخرين من مظهرهم الخارجي أو ملابسهم وهيئتهم. وقد كنت أقف في طابور بأحد المتاجر في دولة أوروبية، وأحمل في حقيبتي مبلغاً مالياً كبيراً، فقد كنت في نهاية الرحلة، وكنت أنوي شراء أكثر الاحتياجات في ذلك اليوم، ووقفت خلفي فتاة أجنبية شابة ترتدي ملابس أنيقة، وتضع أقراطاً لافتة لأحد أفخم دور المجوهرات، وتحمل حقيبة جلدية فاخرة، وفي يدها فستان حريري كانت تنتظر خلفي لتدفع ثمنه، وتبادلنا الابتسامات والتذمر من الانتظار، ومن بطء موظفة صندوق الدفع، وعندما لم يتبق أمامي سوى سيدة واحدة شعرت بمن يلمس حقيبتي بهدوء بالغ، وما أن التفت للحقيبة المعلقة في كتفي، حتى رأيت المبلغ الذي معي في يد تلك الفتاة الراقية في الثواني الأخيرة، قبل أن يخرج بأكمله من الحقيبة، فنظرت إليها في ذهول تام، وهي تنظر إلي في رجاء تام، ووجدت نفسي أردد لها باستغراب شديد "أنتِ! لا أصدق!،وفرت هاربة في ثوان بين ذهول من رأى الموقف من السيدات. ولا أنكر أنني كنت مطمئنة وهي تقف ورائي بأن ليس هناك ما يدعو للشك، فوجهها يوحي بانتمائها لأرقى الطبقات، ولا يوحي أبداً بأنها لصة محترفة.. ومع أنني ممن يتذكر دائماً تلك القصة لتشيكوف ومعجبة بموضوعها، إلا أنني أول من ينساها، ولا يمكنني خلال السفر أن أستقل أي سيارة أجرة، إلا بعد أن أرى وجه سائقها وما يوحي به شكله، ومازلت ممن قد يصدق المظاهر الخادعة، وقد أولي الثقة من لا يستحقها، وما أكثر المواقف المشابهة التي مرت بالكثيرين ممن خدعوا بالمظهر، وكنت أتمنى أن أتعلم ألا أحكم على الآخرين من خلال مظهرهم الخارجي، لكنني ما زلت ممن يعتقد بأن المظهر جزء من شخصية الإنسان، وعامل أساسي لتقبل الآخرين له، ولكن هذا ما حدث وما قد يحدث للكثيرين مثلي، فمن الصعب أحياناً أن نكذب أعيننا ونصدق أحاسيسنا.. فهل أتعلم، ونتعلم.. لا أعلم مجدداً. [email protected]