14 سبتمبر 2025

تسجيل

جيل زمن الطيبين

18 سبتمبر 2019

ينشط بعضُ أفراد المجتمع في استنباط مفاهيمَ وتعريفاتٍ جديدة، مع كلِّ موضة أو حدَثٍ يأتي، وإسقاطها على نماذجَ من أفراد المجتمع، أو كلِّ أفراد المجتمع. فلقد شاعَ مُصطلح (أنت مال أول)، أي أنت قديم التفكير، بالي المفاهيم، ولا تُناسب العصر! تماماً كما شاع مصطلح (السمّاريّة)، وهم الذين سُرِّحُوا من وظائفهم، مع استمرار صرفِ رواتبهم. والسمّاري: هو القارب الذي قُطعت مرساتهُ، وصار مُسَمِّراً مع الموج. وشاع هذه الأيام، مُصطلح (زمن الطيبين)، أي الزمن الماضي، ويتمُّ التأسيّ عليه، من قِبل البعض، ويتم وَسمُ الشخص به، كونه ما عاد يُناسب العصر، وأنه من (زمن الطيبين)، ورُغم جمالِ هذه العبارة، إلا أنها تأخذ مفهوماً سلبياً، يعني عدمَ الأهليّة، وعدمَ التواؤم مع العصر. وهو وسمٌ غير لائق، ولا يجوز أن يتم إقصاءُ المبدعين، المُنتجين، باستخدام هذا المُصطلح غير الصالح. بصراحة، في كلِّ بقاع العالم، قامت الأجيالُ السابقة ببناء بلدانها، وطوّرت مفاهيمَ شعوبها، وظهرَ فيها العلماء والفلاسفة والفنانون والأدباء، فهل يُمكن التنكر لهؤلاء ونعتهم بأنهم من سكان (زمن الطيبين)؟!. ونحن، في دولة قطر، نشهد أن بناء هذه الدولة الفتية كان على أيدي (الطيبين) ولا ننسى رجالَ قطر الذين بنوا البلد، ودافعوا عن حياضه، وعملوا في البحر وفي النفط في الأربعينيات، وعانوا شظفَ العيش في فترات عديدة من حياتهم. كما لا ننسى أن أبناء هؤلاء من الشباب وقتئذ، هم الذين ساهموا في بناء البلد، فمنهم الأطباء، والمهندسون، والأكاديميون، والسفراء، والفنانون والشعراء، كانوا من (زمن الطيبين)، الذي يجب ألّا نتطيّر منه، ونأخذه كـ (مثلبة) لإبعاد أيِّ مواطن عن دوره في الحياة!. أسوق هذا الحديث، بعد أن تلقيت مكالمةً من أحد الأصدقاء العاملين في الحقل الثقافي، بعد أن عاتبته على عدم دعوةِ المثقفين الحقيقيين إلى مؤتمر هام يختصُّ بالثقافة، قبل أسابيع! فما كان منه إلا أن قال: "يقولون عنكم إنكم من (زمن الطيبين)! أي إن وجودَكم لا قيمة له، وإنكم تجاوزكم التاريخ، ولم تعودوا تصلحونَ للمُشاركة، أو لشغل كرسيٍّ في ذاك المؤتمر، قد لا تشكّل رؤية هذا الصديق موقفَ الوزارة في هذا الشأن، فنحن نلقى كل التقدير والاهتمام من مسؤولي الثقافة!. وهذا مفهوم خاطئ، يجب ألا يمرّ مرور الكرام، ويُصبح قاعدة! إذ لولا خبرات الأولين، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم! خصوصاً في المجال الثقافي والإبداعي، الذي يتخلّقُ عبرَ التراكُم الثقافي، وعبرَ القراءات والتجارب التي تصقل هُوية المثقف. والسؤال: هل نعتبر الشاب الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين مثقفاً ونأتي به كي يتسيّد المشهد الثقافي أو الإعلامي؟! وهل تجربته تؤهلهُ للحديث عن مسارات الثقافة في العالم، وتنوعاتِ المذاهب الثقافية، في الشِعر، والفنون التشكيلية، والمسرح، والنقد، والرواية؟! والإنسان لا يمكن أن يصل إلى سنّ النُضج – في أيِّ تخصص – ما لم يحتفظ بذخيرة حيّة من التجارب، والدورات، والقراءات المُستفيضة، خصوصاً وأهل الجيل الحالي لا يقرؤون بما فيه الكفاية؟! كما أن السنّ يمنحُ الإنسان الحكمةَ، واتساع المدارك، والقدرة على التخيّل والابتكار؛ ولا يجوز أن يُقرنَ إبعادُ أهل الخبرة والتخصص، بتمكين الشباب الغضّ، بدعوى إعطائهم الفرصة! لأن المجال الثقافي، كما قلنا مجالٌ تراكمي، لا يصل إليه الإنسان بقرار من مسؤول، قد يحبّه أو يستسيغه، كما هو التعيين في الوظائف المكتبية، التي لا يمتلك أصحابها نواصي الإبداع والحِكمة. بل يصله عبر الخبرات، والقراءات والممارسات، وعملياتِ تحكيم العقل، بين الصواب والخطأ، والمفيد من غير المفيد!. نحن نُدرك أن السياسة تدخلُ في العديد من الاتجاهات المجتمعية، ومنها التعيينات في جهات الثقافة، ولقد شهدنا مراحل متعددة لتجارب من هذا النوع، وقمنا بتقييمها، ولم نلحظ أنها تقدّمت بالمشاريع الجادّة، بل لاحظنا تراجعاً في الأداء، في المشاريع الجادة، في مقابل غيرها، ومن الأمور التي طالبنا بها سابقاً، ألّا يُحرم المواطنُ المُبدع من حقِّ المُشاركة المحلية والخارجية. إن الموظف الرسمي يُهيئ المناخ والأمور اللوجستية لمشاركة المُبدع، وليس كلُّ موظف في جهات الثقافة يكون مُبدعاً، وبالتالي يجب أن يقوم بمشاركة مبدعين متخصصين في نشاطات الداخل والخارج، وكثيرون مِمَن يتعاملون مع الثقافة لا يُدركون هذه الحقيقة. لا أُريد أن تكون هذه المقالة رسالة "استعطاف" أو "رجاء"، لأنه قد فاتَ وقتُ ذلك، ولكنه ناقوس قد يُنير بعضَ الدياجير، التي لا نودّ أن تستمر، خصوصاً وأن بلادنا بحاجة لأي جهد مُبدع، واتجاهٍ جاد، يُقارع به خبراتِ الآخرين، وألّا يقف أحدُنا موقف المُتفرج من التجارب الثقافية الأخرى، كما وقفَ العربُ موقفَ المتفرج من النهضة الأوروبية!. التأسيس الجاد أمرٌ مهم، ليس في علِم الإدارة، بل في كلِّ المجالات، وأهمها التعليم والثقافة. واليوم إن كان بعضُ خريجي الجامعة لا يستطيعون كتابة مُذكرةٍ من عشرين سطراً، دون أخطاء إملائية أو نحوية، أو لا يستطيعون استنباط أفكار جديدة، في أي تخصُّص، فإننا أمام معضلة كبرى، تُهدِّد مستوى الأجيال القادمة، قد تجعلهم "أرْدى" من أهل (زمن الطيبين) في نظر الجيل القادم! وتعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، لنأتِ بشابٍ من (زمن الطيبين)، وآخر من (جيل.......) ونعمل لكليهما امتحاناً في اللغة، المعلومات العامة، التربية الوطنية، تاريخ قطر، التفكير الناقد! ماذا تتوقعون النتيجة؟! بالطبع قد يتفوق الشاب من (جيل.......) في الإنجليزية، لا بأس، ولكنه لن يتمكن من إجادة اللغة العربية، وهي لغة الثقافة لدينا، وليست لديه المساحة الكافية للمعلومات العامة، التي قرأها أهلُ (زمن الطيبين)، من الجرائد والمجلات والكتب، بل لن تكون للأول، الأعصابُ والتعقّلُ في الخطابة، ومواجهة الجمهور، ولن يكون على علمٍ بتاريخ قطر والمنطقة العربية، ولا جغرافيتها. فما بالكم إذا ما تحدّثنا عن الفنون وأنماط الثقافة الأخرى من المسرح، الفنون التشكيلية، الأزياء، الأهازيج، الشعر، الموسيقى.. إلخ. وإذا ما اعتبرنا مبدعي (زمن الطيبين) قد فاتهم القطار، فهل خرج من الشباب ( جيل......) مثل: جاسم زيني، يوسف أحمد، حسن الجابر، سلمان المالك، محمد علي.. وغيرهم. وهل يمكن اعتبار كلِّ من: عبدالرحمن المناعي، حمد الرميحي، غانم السليطي، عبدالعزيز جاسم (رحمه الله)، علي حسن، جاسم الأنصاري، هدية سعيد، وغيرهم، من (زمن الطيبين)، ولم يخرج أمثالهم حتى اليوم؟! وهل يمكن اعتبار كلِّ من: د. حسن النعمة، الشيخ مبارك بن سيف، د. حسن رشيد، د. مرزوق بشير، عبدالعزيز محمد الخاطر، نورة آل سعد، دلال خليفة، شعاع خليفة، هدى النعيمي، وغيرهم، على أنهم من (زمن الطيبين)، وبالتالي لا نتعامل معهم؟! وهل نستطيع التخلي عن فنانينا أمثال: عبدالعزيز ناصر (رحمه الله)، وحسن علي (رحمه الله)، ومطر علي، وعبدالله المناعي، وعلي عبدالستار، وصقر صالح، ومحمد الساعي (رحمه الله)، وفرج عبدالكريم (رحمه الله)، وناصر صالح، وغيرهم، من الذين أسعدونا بأغنياتهم، وما زالوا يعيشون بيننا، هل يمكن اعتبارهم من (زمن الطيبين) ونقاطعهم؟!. من المؤلم أن يشيع مُصطلحُ (زمن الطيبين) لوَسم الخبرات التي خدمت الوطن، وما زالت قادرةً على تحمّل المسؤولية، وتقديمِ الجديد والمفيد في مجالاتها المختلفة. ومن المؤلم أن تشيعَ المجاملةُ وثقافةُ التجارب، في الأداء وفي المُنتج الثقافي، دون وجود جهة توجّهُ وتُدرّب، بل على العكس، توجد جهاتٌ تُسيء إلى الحراك الثقافي وذلك عبر تشجيع الأدب "الخَديج"، والإنتاج الرديء، دونما وازعٍ من ضمير، لأن ذاك "التشجيع الأعمى"، يكون خطراً على مسار الثقافة في قطر، ويتعارض مع جهود وزارة الثقافة والرياضة في تقديم الجيد والمفيد. إن العديد مِما تُنتجه المطابعُ هذه الايام، لا يصلح للاستخدام الآدمي، كونهُ غيرَ ناضج، وغيرَ مفيد، ولا يُساهم في الحراك الثقافي. نحن مع التشجيع للإنتاج الجيد والمُثري للحراك الثقافي، والذي نستطيع أن نجاري فيه إنتاج الدول الأخرى، أما "كرنفالات" الاحتفاء بالكتب، التي تُقام من وقت لآخر، كدعايةٍ لجهةٍ ثقافية، فهي ظاهرة غير إيجابية، ويجب أن تَحلَّ محلَّها جلساتٌ نقدية رصينة، تُساعد الكاتب على الاستمرار، وتوضّح له الهنّات، حتى لا يكررها في إنتاجه القادم. الإشكالية هنا أن هذه الجلسات الجادة لن تقوم إلَا بواسطة أهل (زمن الطيبين) الذين يمتلكون الخبرة والفصاحة والتجربة، وهُم لا يريدُونهم أن يكونوا في المشهد!. جيلُ (زمن الطيبين) هم الخبرة، والمسؤولية، والإنتاج الأعمق، والرؤية الأشمل لمصلحة وطنهم، ومن المؤلم أن يُوسموا بهذا الوسم الذي لا يتناسب وعطاءهم وإنتاجهم. [email protected]