19 سبتمبر 2025
تسجيليورد الدكتور عبد الله إبراهيم في كتابه (السردية العربية الحديثة.. تفكيك الخطاب الاستعماري وإعادة تفسير النشأة) تعريفًا للرواية على لسان (باختين) يقول فيه، إن "الرواية ظاهرة متعددة من ناحية الأسلوب واللسان والصوت، وتتضمن وحدات أسلوبية غير متجانسة، كالسرد المباشر وإعادة تكييف المرويات الشفوية والمكتوبة، وتتضمن كتابات أخرى متنوعة: أخلاقية وفلسفية واستطرادات أثنوغرافية، وأخيرًا خطاب الشخصيات الروائية نفسها، وهذه الوحدات الأسلوبية اللامتجانسة تتمازج عند دخولها إلى الرواية لتكون نسقًا أدبيًا منسجمًا". ويتجاهل عدد كبير من كُتاب الرواية هذه الأيام تداخل تلك الوحدات الأسلوبية، معتمدين – فقط – على السرد، وعلى (الراوي العليم) في الأغلب، بحيث تقرأ كامل الرواية دون أن ينتقل بك المؤلف إلى الأجناس أو الأشكال الداعمة لأسلوب السرد المباشر، ونعني بذلك استقلال الشخصيات بأساليبها، بعيدًا عن قيود وفرضيات المؤلف، وكذلك الرسالة الأخلاقية التي تود الشخصيات إيصالها إلى القارئ؛ حتى لو تناقضت مع أفكار المؤلف! وأيضًا تلك النقلات الزمانية والمكانية التي تقطع التسلسل الطويل للأحداث المسرودة، والتي تبعث السأم في حالات عديدة. كما يلعب الحوار والمذكرات والمنولوج الداخلي واستحضار الماضي دورًا مهمًا في توصيف الشخصيات، والتي قد لا تأتي ضمن نطاق السرد المباشر. وبرأينا أن التوصيف غير المباشر يُتيح الفرصة للقارئ لأن يضع توصيفه الخاص، حتى إذا ما أكمل الرواية عرفَ ماهيَّة الشخصيات، وتجسَّدت أمامه هيئاتها وملامحها وأفكارها وأذواقها ونواياها.. إلخ.ولقد قرأتُ العديد من الروايات الحديثة التي لم يلتفت مؤلفوها لا إلى التنوع الأسلوبي ولا إلى قضية التوصيف، ولا حتى لدور المكان والزمان في استحضار المشهدية الواضحة في ذهن القارئ. فتبدو الأحداث " معلقة" في زمان ومكان افتراضيين. ومردُّ ذلك قلة خبرة بعض الكُتاب، وعدم اطلاعهم على (الخصائص السردية) التي لا يمكن أن تُولد رواية بدونها.كما يُلاحظ غياب الخيال الواسع في العديد من الأعمال الحديثة، وتقديم الرواية " مجردة" ومجتزأة عن الجذور والبيئة التي لا تنبت رواية بدونها. وإذا ما اعتبرنا الرواية عملًا فنيًا ثقافيًا في المقام الأول، فإن عامل الخيال مهم في تجميل السرد "الجاف" والمعتمد أحيانًا على مرويات شفوية أو صور اجتماعية استطاع المؤلف جمعها جمعًا مباشرًا من البيئة من حوله، دون أن يُضيف عليها من ذائقته وثقافته شيئًا جديدًا، وهذا بعيد عن الإبداع. ويتجلى ذاك "التجميل" في حُسن انتقاء الألفاظ المنسجمة مع موضوع الرواية، وفي جمال توليف اللغة الأدبية وبديعها، وجِدَّة رسم الصور غير المطروقة سابقًا، عبر التشبيهات والاستعارات التي تجعل من النص صورة ناطقة يستطيع الفنان التشكيلي رسمها بكل سهولة. إن تشكيل هذه (الخلطة) غير المتجانسة – كما ورد في التعريف أعلاه – يؤدي بنا في النهاية إلى شكل متجانس لا يخلقه الكاتب لوحده، بل تُساهم في خلقه (الخصائص السردية) بأكملها، ورسالة الروائي المخبوءةُ في تضاعيف السرد. فالرواية إن لم تحمل رسالة أو مضمونًا يريد الروائي إيصاله للقارئ، وإن كان تلميحًا، لا يمكن عدّها رواية!؟ ذلك أن من أهداف الرواية أن تقدّم شهادة على العصر، وتكون متلازمة مع الثوابت واهتزازاتها، ومع تحوّل الأبنية الاجتماعية، بل وتساهم في خلق علاقات جديدة بين الناس، بعيدًا عن الوعظ المباشر الذي لاحظناه في العديد من الأعمال! فهي تفسّر العالم وظواهره في شكل فني يبعث على الإمتاع والتشويق.وإذا ما خلت أي رواية من الخصائص السردية – التي تُشكّل العمود الفقري للرواية - ومن القيم الجمالية للغة وصورها المتعددة، فبلا شك لن تجد القبول لدى القارئ، وتصبح "إعلانًا" خاصًا بكاتبها، وهذا بعيد جدًا عن التصور العام للرواية.