11 سبتمبر 2025

تسجيل

قبل أن يموت العرب جوعاً

18 أغسطس 2015

في التاريخ العربي خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أمثلة كثيرة تدلل على حجم وفداحة الفقر المدقع الذي كان يعيشه عرب الشرق الأوسط في أغلب مجتمعاتهم، خصوصا في البادية والقرى، ولعل بلدا كالأردن يعد مصدرا للزراعات وإنتاج الحبوب خلال سنوات طويلة حتى اليوم، يوثق التاريخ لمجاعة كبرى وقعت عليه وعلى مناطق من فلسطين في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، وهناك وثيقة صحفية "خبر صحيفة فلسطين" صيف عام 1934 يوثق وفاة 94 شخصا من أبناء إحدى قبائل شمال الأردن جوعا، واستمر الجوع والفقر والحاجة سمة غالبة على معظم السكان، حتى انفجرت الثروات وتدفقت البضائع الرخيصة في بداية السبعينيات. الخليج العربي ليس ببعيد عن الأردن وفلسطين، وتعد البلاد العربية على ساحل الخليج العربي مناطق صحراوية بناء على التصنيف المناخي والطبوغرافي للمنطقة الأشد حرارة وقساوة طبيعة في الشرق الأوسط، وقد ذاق أهلنا القدماء فيها شظف العيش، ما كان يدفعهم إلى الترحال بعيدا، بحثا عن مناطق أقل حرارة وأكثر هطولا للمطر ووفرة في المياه، فقد وصلوا إلى بادية الشام، ابتداء من الكرك جنوب الأردن وحتى محيط بحيرة طبريا، وعودة نحو البادية السورية حتى حمص ومنطقة الجزيرة في شرق سوريا وغرب العراق، حيث كانت تلك المناطق من أوفر الأراضي الزراعية وأغناها إنتاجا. اكتشف النفط، فتدفقت الأموال كالأنهار الجارية في المصارف وخزائن الدول وعاش المواطنون جميعهم في بحبوحة من العيش، وتدفقت البضائع التي لم نكن لنعرفها لو بقينا بلا نفط أو ثروات طبيعية، وليس الخليج وحده من لمست شعوبه خيرات الزمن الجميل، بل تحولت غالبية بلاد العرب إلى أنماط العيش المترف بلا حساب، فقد لعبت البنوك والمصارف دورا كبيرا في توفير السيولة النقدية، وتحول الكثير من الناس إلى التجارة أدى إلى تغير في نمط العيش والاستهلاك، وبات من السهل الحصول على المنتجات الغذائية والزراعية والأدوات والكماليات، لغالبية شعوبنا بلا حساب، ما جعلنا نتراجع في القوى التشغيلية والإنتاج. اليوم، وفي نظرة سريعة لرجل كوالدي الذي ناهز التسعين من العمر، أحسن الله ختامه، تقرأ في خارطة عمره الجغرافية والتنموية، كيف وصل إلى ما نحن عليه اليوم، من السكن في فلل فاخرة وبساتين ووفرة في الخدمات، من كهرباء وماء وسيارات وأدوات تكنولوجية يمتلئ بها البيت الكبير، فمن بيت شعر ولد فيه في البادية الأردنية، وتربى في البيت الحجري الوحيد الذي بناه والده الشيخ آنذاك وسط بيوت الطين التي يقطنها الفلاحون والحراثون وبيوت الشعر التي يقطنها البدو، ليمرّ في محطات سريعة ومتحولة لا يكاد المرء أن يستوعبها، فمن الانتقال لبيت الحجر إلى رحلة علاج في مستشفيات القدس ثم بيروت، إلى الدخول، كمواطن، في معترك السياسة ومؤسسات الحكم والتشريع والقضاء والفنادق والمطاعم التي لم يكن يعرفها رجالات البادية على مرّ القرون الماضية. ما يهمنا اليوم هو ما يجري من تبديد وتبذير صارخ لثروات العالم العربي على قنوات أشبه ما تكون بمجاري الصرف الصحي التي تنقل المياه العادمة إلى باطن الأرض للتخلص من روائحها الكريهة، وهذه القنوات تبرز في ثلاثة محاور: النمط الاجتماعي، والمعارك السياسية، والإنفاق العسكري، وهناك غيرها ولكن هذه باختصار هي المحيط الذي يبتلع أنهار الثروات العربية في ظل فقر في الإنتاج وعجز في التنافسية التجارية وانعدام في الصناعات الكبرى. فعاداتنا الاجتماعية في الإنفاق وصلت حدودها الكارثية، حتى أصبحنا نرى شباباً مراهقين يقودون سيارات يصل ثمنها إلى مليون دولار من أجل الاستعراض والتفاخر، بينما السائق المراهق لا يستطيع إصلاح حذائه، فكيف بصنعه، ونرى بيننا من يفتح الله عليه رزقا فيشتري قصرا بملايين الدولارات أو يقترض من البنوك لشرائه وشراء أسطول سيارات والتطاول في الموائد والبذخ، وكل ما هو مستخدم من قبلنا، نحن المبذرين العرب، ليس من صنع أيدينا ولا نملك أن نستنسخ عنه أبسط شيء. فيما نرى في المقابل المعارك السياسية التي يخوضها الساسة العرب، فتجد أنهم ينفقون ملايين ومليارات الدولارات من أجل إحباط قيام حركات سياسية على أسس من العدالة والوعي وتبادل السلطة بشكل ديمقراطي مبني على صناديق اقتراع يقررها الشعب، فهناك دول وشخصيات قيادية في دول عربية ضخت مليارات الدولارات للانقلاب على الشرعيات الوطنية وعلى إرادة الشارع، ولضرب الإسلام السياسي بدعوى أنه خطر كبير، فيما ينفق بالمقابل على العلمانيين ودعاة الانحلال والجمعيات التي تدعو إلى تغيير الصبغة الإسلامية والعادات والتقاليد المحترمة من مجتمعاتنا. أما الإنفاق العسكري فهو الأكثر حساسية عند الحديث عنه، لأنه يتعلق بسيادة الدول والجيوش، ولكن يبرز السؤال الطريف الذي يطرحه أي عربي ضاقت به السبل، وهو: لو أنهم أنفقوا هذه المليارات على فقراء العرب لما احتاجوا إلى مواجهة تلك الثورات، فيما آخر يقول: العرب ينفقون ثرواتهم على أسلحة وطائرات يأكلها الصدأ دون أن تستخدم، وإن استخدمت يكون ذلك لمواجهة شعوبهم من المعارضة، كما رأينا خلال السنوات الأربع الماضية وما قبلها في بعض الدول. إذا العرب أمامهم الفرصة الأخيرة في بداية هذا القرن وهو التفكير فعليا بالتخلص من كل هذه المعارك والحروب "الدونكشيوتية" التي لن تأتي بأي بديل أفضل، بل ستتناسل أجيال جديدة لن يغيرها أحد عما تربى عليها آباؤها، إلا الله تعالى، والعودة فعليا لبناء منظومة اقتصادية عربية موحدة لبناء اقتصاد عربي جديد متعدد الخيارات ومرتبط بأسواق عدة، حتى لا يأتينا يوم نرى فيه العرب وقد ماتوا جوعا كما سبق وماتوا.