18 سبتمبر 2025

تسجيل

كان ونسخ

18 يوليو 2014

الناس بين معارف وأصدقاء في الظاهر وأخوة مباطنين، فعامة الناس اليوم معارف والنادر فيهم صديق في الظاهر، أما الأخوة والمصافاة فتلك عملة نادرة، بل شيء قد كان ثم نُسِخَ، فالمطلوب منك أن تنقل الأخوة إلى خانة الأصدقاء الظاهرة، فإن لم يصلحوا لها فانقلهم إلى جملة المعارف وتعامل معهم معاملة من تعرفه، وعلى العموم فأنا لا أرى - بعد طول تجريب – من تصفو له أخوة، سواء كانت في النسب أو سببا من أخ أو ولد أو زوجة، فدع عنك الطمع في الصفا وخذ الجميع جانباً وعاملهم معاملة المعارف أو الأصدقاء، وإذا اصطفيت صديقاً وخبرته فلا تخبره بكل ما عندك، وإياك أن تنخدع بمن يظهر لك الود، فإنه مع الزمان يبين لك الحال فيما أظهره، وربما أظهر لك ذلك لسبب يناله منك، وقد قال الفضيل بن عياض: "إذا أردت أن تصادق صديقاً فأغضبه فإن رأيته كما ينبغي فصادقه"، هذا في زمان الفضيل.أما لو فعل هذا أحد من الناس في زماننا لكان فيه من المخاطرة، لأنك إذا أغضبت أحداً صار لك عدواً في الحال وربما وشى بك إلى من يستطيع أن يؤذيك، فآذاك، ولا تعاتب صديقاً، لأن الصديق الصدوق لا يحوجك إلى العتاب، قال يحيى بن معاذ: "بئس الأخ أخٌ يحتاج أن تقول له اذكرني في دعائك".أما لو صفا لك بعض الأصدقاء فتعاهده بالإحسان كما تتعاهد الشجرة، فإنها إن كانت جيدة الأصل حسنت ثمرتها بالتعاهد ثم كن معه على حذر، فقد تتغير الأحوال، وأظهر له الجميل حتى عندما تغضب جهدك وتبره ما استطعت حتى تتكسر معاداته – إن كانت – جبلة، لأن النفوس مجبولة على محبة من أحسن إليها، فإن لم تطق فهجر جميل والله المستعان، لا تبين فيه – الهجر – ما يؤذي، ومتى سمعت عنه كلمة فيها تجريح لك أو إساءة، فاجعل ما يقابلها كلمة جميلة، فهي أقوى في كف ما يسوءك.إن من أعظم البلايا والغلط الثقة المطلقة بالناس والاسترسال إلى الأصدقاء، فإن أشد الأعداء وأكثرهم أذى الصديق المنقلب عدواً، لأنه اطلع على خفي السر، قال الشاعر: احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة فلربما انقلب الصديق فكان أولى بالمضرة إن السلف الصالح أحبوا وصادقوا وآخوا بصدق، لأن همتهم كانت الآخرة وحدها، فصفت نياتهم في الأخوة والمخالطة، فكانت ديناً لا دنيا، وأما في أيامنا هذه فقد استولى حب الدنيا على القلوب، فإذا رأيت متديناً فاختبره قبل أن تصحبه ولكل إنسان وسائله في اختبار الناس.إن الكثير من أصدقاء اليوم حساد على النعم وأعداء لا يسترون زلة ولا يعرفون لجليس حقاً ولا يواسون من مالهم صديقاً، فاجعل الخلق كلهم معارف، ليس فيهم صديق إلا من رحم، فلا تظهر سرك لمخلوق منهم ولا تعدن من يصلح لشدة، وهو كما قيل: "صديق صدوق صادق الوعد منصفا".فلا يغرنك صديق أبداً في المنظر حتى تختبره، فإن وقعت يدك على صديق حسن العشرة، إن زغت قومَّك وإن نسيت ذكّرك وألا يفشي لك سراً وهو كما قال الإمام الشافعي: "من صدق في أخوة أخيه قبِلَ علله وسد خلله وعفا عن زلـله"، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "عليك بإخوان الصدق، تعشى في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء، وعدة في البلاء وعليك الصدق وإن قتلك الصدق، ولا تصحبن الفاجر فتتعلم فجوره واحذر صديقك إلا الأمين ولا أمين إلا من خشي الله واستشر في أمورك الذين يخشون الله".والعاقل يستخبر أمور إخوانه قبل أن يؤاخيهم وأصح أوقات الاختبار لمن تريد مصاحبته عند وجود حالته بعد هيجان الغضب.قال سفيان الثوري: اصحب من شئت ثم أغضبه ثم دس إليه من يسأله عنك"، فإن لم ينصفك عند غضبه لم تودك أيامه، لأن الصديق عرضه ومروءته، فالتثبت والتلبث أولى من التهاجر والانقطاع بعد الصحبة، واحذر جاهداً معاداة من صافاك، وخير الإخوان من إذا عظّمته صانك ولا يعيب على الزلة، لأنه شريك لك في الطبيعة (المرء على دين خليله)، واحذر أن تكون ثقيلاً على إخوانك، لأن من ثقل على أصدقائه خف على أعدائه.وكن ذا مروءة في سفرك وحضرك، فإذا كنت مسافراً فعليك ببذل الزاد وقلة الخلاف على أصحابك وكثرة المزاح في غير ما يسخط الله، وإذا كنت في الحضر فأكثر من ارتياد المساجد وزيارة الإخوان في الله والإكثار منهم - إن أصبتهم – وتلاوة القرآن الكريم وحبذا لو كان مع الأصحاب ومن لم يستظهر بالإخوان عضه ناب الزمان.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين