27 أكتوبر 2025

تسجيل

لحظات هاربة

18 يونيو 2018

ما إن  يطالع أحدنا نفسه في المرآة لإصلاح هيئته حتى يدور حديث صامت وبعضه صاخب قد ينتهي بابتسامة أو سخرية وقد يتطور الحديث إلى السب أو الضرب وأحيانا البصق على صورة الوجه في المرآة !! حسناً ، الأمر لا يدعو للخجل فتلك لحظة جليلة لكنها قليلة من لحظات الوعي بالذات لقد شارف هذا السعيد لتوه على رؤية ذاته عارية من أوهامها ، لحظة وعيٍ تطلب منك أن تستدير لترى نفسك هنا في داخلك  وليس في أي مكان آخر حيث أولئك الذين حطموا مصابيحهم وساروا في الظلام فأصلحوا ظاهرهم وأهملوا باطنهم وهو بالإصلاح أولى فلا ينبغي أن تعبأ بالذين لا يعجبهم منك إلا حذاؤك. يقولون : من شدة القرب يأتي الخفاء وحين يصبح الرائي هو عين المرئي تنعدم الرؤية لذا كانت معرفة النفس من أعز المطالب وهنا تكمن عظمة المرآة أنها تمنحنا المسافة الملائمة لكي نرى ذواتنا فحديثك مع نفسك دليل على أنك حي ، وعظمة نفوس هؤلاء في عين الله جعلته يقسم بها  " ولا أقسم بالنفس اللوامة". والمأساة الحقيقية تلوح حينما يشارف المرء على تحقيق ذاته كما قال برديائيف عندها يتداعى كل وعد زائف بالسعادة ،ألست ترى أن كل متعة منقوصة وكل سعادة محض أوهام ؟ ألست تستشعر وحشة بعد كل نجاح تحرزه ؟ ألست تعاني شعورا بالنقص بعد كل لذة تفوز بها ؟ ثمة رسالة هنا أن في النفس ثقباً لا يسده إلا الله.إن أقدار المرء هي مجموع رسائله التي يجب عليه أن يفض مغاليقها ليقرأ ما فيها ، فحُق النعي على ألائك الذين لا يقرؤن أو يقرؤن لكن لا يفهمون أو يفهمون لكن لا يعملون أو يعملون لكن لا يخلصون.  إن الباحثين عن الراحة في الدنيا وعن الكمال في المال وعن اللذة في الجمال ضائعون في صحراء التيه بحثاً عن السعادة في المكان الخطأ  كأولئك الباحثين عن فك ألغاز الوجود وصياغة نظرية " كل شئ " لتفسير العالم بأشيائه وأحداثه وأشخاصه فهؤلاء وأولئك باحثون في حقيقة الأمر عن أنفسهم ، عن الله لو كانوا يعلمون، وعندما تحين لحظة الحقيقة فيجدون أنفسهم وجها لوجه أمام الله وأمام أنفسهم إذاهم يعرضون.  إن عمر الإنسان لا يقاس بطوله في حساب الزمن وإنما بعمقه في سبر أغوار النفس، وما النقص الذي نحسه مع كل لذة وما الوحشة التي تتملكنا فور كل نجاح  إلا دليلا على حنين النفس  إلى عالم الكمالات حيث لا وحشة ثمة ولا فتور تماماً كأنين الناي الحزين عندما يحن إلى  الأرض التي اقتُلع منها وكما يحلم الفيل بأرض الهند تشتاق الروح إلى عالمها والذي يقيناً ليس هذا العالم  فنحن في هذا العالم ولسنا منه، إنها لحظات تهرب من بين أيدينا بما تحمله من رسائل تأخذ بأعناقنا إلى الحقيقة فنهرب منها أو نتركها تهرب من بين أيدينا فطوبى لمن اعتقلها!