15 سبتمبر 2025
تسجيلتتعالى الهمهمات والأحاديث الجانبية في غرفة الاجتماعات، بحضور كبيرهم المُتسم بالحكمة والفصاحة، فهو جالس على عرشه الفخم متوسطاً الحضور المتكئين على كراسيهم يمنةً ويسراً، في اجتماع مُغلق يسوده التوتر ويكأن سحابة سوداء قد انحدرت على رؤوسهم تمهيداً لإنهمار الأمطار الغزيرة، يلتفتون لبعضهم البعض والأسئلة يتكاثر نموها على ألسنتهم في ذهول مُريب وأفئدتهم هواء، بعد أن ركبهم الغيظ والغضب من كلمات أحدهم التي اختالت بغتةً عمودا في صحيفةٍ ما، فهو يكتب بعفوية دون إساءة لاسم مُعيّن ولا يهمه سوى الإصلاح ما استطاع...عدة أشخاص من أكابرة القوم يجلسون على الطاولة المستديرة المُفعمة بالفخامة، خشب عتيق من صناعة يدوية، تلك الطاولة الصابرة على خبطات أيديهم المُباغتة، وقد وصل التذمر إلى أعلى سقف غرفة الاجتماعات فكاد يسقط "الجبس" وتسقط معه الإضاءات الساطعة من ثُقل احتدام الحضور بسبب حروفٌ كُتبت وأُلصقت على صفحات الجرائد... أو سطرٌ يتيم احتضنته ورقةٌ ما..التوتر اكتسح المكان، والكبير ينظر إليهم بتركيز مُفرط، مُستمعاً جيداً لهم، فقد كان مُنصتاً لثرثرة أفواههم دون أن يُحرّك ساكناً، يتلاعب بأسفل ذقنه الأسود المُختلط بالبياض، أحدهم احتج بامْتِعَاض وقال: " يجب إيقافه فوراً! لقد أساء إلينا! وإن لم يذكر اسماً أو مكاناً، ولكنه حتماً يقصدنا، لأنه استخدم غمزاً ولمزاً! "، ثم صفع بيده الطاولة، فقالت الطاولة دون أن يسمعها أحد: "ويعة"!أكواب شاي وفناجين قهوة تحملها الطاولة على ظهرها، أحدهم غير مُنتبه لما يدور في هذه الغرفة سوى إلتهام بسكويتات هشة، متطايرة بقاياها من فمه، ولا تعليق لديه سوى هز رأسه بالإيجاب لكل ما يُثار من تعليقات إلى أن قضى على جميع القطع! ورشفة قوية من فمه لكوب الشاي شفطت ما بداخل الكوب من أشلاء! فأبدله بكوب آخر باحثاً عن طعام يلتهمه بالرغم من هزالة جسده إلا أنه لا يكف عن تذوق ما هو أمامه، مُصدراً ضحكات عالية ليس لها سبب وفي وقت غير مُناسب...وآخر اكتفى ببحلقة عينه إلى الكبير، دون أي همس، إلا أن رأسه يكاد ينفجر من الحَنَق على ذلك الكاتب، بالرغم من أنه يعمل على تأليف كتابه الموسوم بــ " يوميات حنطور في الجيزة " مُسهباً الحديث فيه عن درجات جمال النساء والطعن في العالم والكلام الفارغ، مُخرجاً تلك الأفكار من الباب الخلفي ليوهم نفسه والآخرين بأنه يفهم في عالم الكتابة، ولكنه لم ينتبه إلى أن الآخرين يعرفون ما يحمله من سوء سريرة فيتأملون تصرفاته " الغبية " من النافذة، مستأنفاً بلاهته بسوء تعامله مع الناس في حياته الواقعية... ومع ذلك عند انتقاده "يفتر حول نفسه" من الغضب!الآخرون والكبير وطاولتهم المستديرة في نبأ عظيم... اتكأ الكبير على ظهر الكرسي فأخرج زفيراً طويلاً، ثم قال بعد ذلك: " لا أملك سوى إسداء النصح إلى ذلك الكاتب، فلا ننسى بأنه محسوبٌ علينا "!، فإذا بالجميع يرفعون أصواتهم بالرفض والاعتراض، وقد كانت تجلس بجانبهم امرأة حانقة مكثت تضرب الطاولة بقوة وتقول: " إن لم توقفه عند حده فأنا من سيقوم بذلك "!! وازداد التوتر في المكان، وانتثر غبار الاعتراض الممزوج بالبسكويتات الهشة على الطاولة المستديرة التي تُعاني من خبطات أيديهم على ظهرها، والرفسات المباغتة على أرجلها!" أرجوكم هدوء.. هدوء... يُرجى ضبط النفس " قال الكبير بنَفَسٍ يغلبه الحكمة... ارتشف شيئاً من القهوة ثم أكمل حديثه: " لا بُد من علاج هذا الأمر بالنصح بدلاً من العقاب، لاسيما بأن الكاتب لم يذكر اسماً مُعيناً، ومع ذلك اللي على راسه بطحة يحسس عليها اعزائي الأكابر "! فازداد الشجب أكثر، وبينما تتشابك أصواتهم وتعلوا، فإذا بأحد الحضور يتزحزح من مكانه وبيده هاتفه المحمول " عن اذنكم... دقايق بس! " خرج من غرفة الاجتماعات... ليجري اتصالاً...." واحد... اثنان... ثلاثة... أربعة... خمسة.... " الكاتب متمدد على سريره الدافئ يحاول النوم، يحسب الخراف التي تدور في خياله، فلطالما شاكسته الحروف عند وضع رأسه على المخدة، فتجبره على السهر معها وسط الحبر والورق فيتصارع معها لتتركه ينام، وفجأة " تررررررررررررن "!! يرن هاتفه االمحمول، " ألوووو " رد الكاتب، فأتاه صوتاً مُحذراً: " يا صاح إن القوم يأتمرون بك ليُعاقبوك فانفذ بجلدك إني لك من الناصحين... " ثم أنهى المكالمة...ابتسم الكاتب غير آبه بما سمع..ولا زالوا مجتمعين... ورافعين رايات الإعتراض... فإذا برسالة تخترق الهاتف المحمول للكبير...مكث لوهلة يقرأها بهدوء، فقال للجمع: " إن الكاتب في رسالته يقول لكم ما قاله المتنبي:أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبيوَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُأنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَاوَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُالصمت عم الغرفة... سكوت مُريب حلّ على الحضور... الإحراج غطى وجوههم...ولكنهم سرعان ما عادوا إلى استئناف الشجب والاحتجاج في المكان... خرج الكبير من غرفة الاجتماعات تاركاً ما يدّعون... وخرجت معه الطاولة بعد أن نفضت ما على ظهرها من أكواب على ملابسهم... وعاد الكاتب إلى نومه مبتسماً... هادئاً كهدوء ضميره الذي يؤمن بأنه لا يضره كيد الكائدين طالما هو على الطريق السليم... بلا تجريح لأحدٍ بإسمه... لأنه يقاتل الصفات السيئة وليست الأسماء... ولكن من يفهم؟