12 سبتمبر 2025
تسجيلمرة ثانية وثالثة ورابعة، وربما أكثر من ذلك بكثير يبدو ربيع الثورات العربية كابوسا مزعجا للأنظمة الدكتاتورية المشبعة بالتكلس أو تلك المتشبعة بالعجز والوهن، ليس بسبب الاحتجاجات السلمية التي جوبهت من الجماهير بها منذ عدة شهور، وجعلت الأرض تميد من تحت أقدامها، وإنما هذه المرة بسبب الإحراج الذي لحق بها بسبب روح العزيمة التي استلهمتها من ألق هذا الربيع في مواجهة إسرائيل، وجعل ذكرى نكبة فلسطين ذات طبيعة مختلفة. لقد كشفت مسيرات الزاحفين إلى الحدود المشتركة مع إسرائيل عن جملة من المفارقات التي فضحت سواء المواقف المتخاذلة لبعض هذه الأنظمة التي تتبنى منهج التسوية واتفاقيات ما يسمى بالسلام، أو زيف ادعاءات بعضها الآخر الذي طالما تشدق بالممانعة ودعم المقاومة. من المؤكد أن تمكن فلسطينيين وربما معهم سوريون من الوصول فعليا إلى الطرف الآخر الذي يسيطر عليه الكيان الصهيوني من هضبة الجولان بنوع من الضغط الاحتجاجي الشعبي المحدود عددا والكبير إصرارا وعزيمة رغم ما يقال عن قوة سلاح جيش العدو الصهيوني ووفرة حقول الألغام الموجودة بين الجانبين السوري والجانب المحتل من أرضه، من المؤكد أنه كان مفاجأة من العيار الثقيل لكل من إسرائيل والسلطات السورية على حد سواء، وثمة تقارير إسرائيلية اعتبرت ما حصل فشلا عسكريا وأمنيا لها. لقد سمعت واحدا من الشباب الذين تمكنوا من الوصول للجانب الآخر من هضبة الجولان المحتلة يتحدث بصراحة عبر إحدى شاشات التلفزة العربية عن كذبة الألغام التي كان الجانبان السوري والإسرائيلي يخوّفان الناس بها لمدة عقود بينما استطاع هو وزملاؤه التغلب عليها واختراقها في محاولة واحدة. وفيما لا يزال القمع السوري متواصلا ضد المحتجين في مدينة درعا ـ ومدن أخرى ـ سيعقد أي مواطن عربي بسيط في ذهنه مقارنة منطقية ـ تمت الإشارة إليها من قبل كتاب وصحفيين ـ ومفادها أنه في الوقت الذي تحاصر وتقتحم دبابات الجيش السوري درعا التي تقع تحت السيادة السورية بصورة كاملة وعلى بعد 20 كليو مترا فقط من هضبة الجولان المحتلة من قبل إسرائيل منذ 1967، وتنكل بأبناء شعبها من المدنيين العزل الذين يطالبون بالإصلاح، تغفل عن دولة عدوة محتلة دون أن تكلف نفسها عناء إطلاق طلقة واحدة باتجاهها من خلال هذه الهضبة. السقوط الكبير لخدعة "ممانعة" النظام السوري التي ظل يسوقها لعقود انكشفت من طرق أخرى في وقت متقارب مع ذكرى النكبة، ومنها أولا: تصريحات رامي مخلوف لصحيفة نيويورك تايمز والتي جاء فيها: "إذا لم يكن هناك استقرار في سوريا فلن يكون هناك استقرار في إسرائيل. لا يمكن لأحد أن يضمن ماذا يحدث ـ لا سمح الله ـ إن حدث أي شيء للنظام"، وبات واضحا أن المصالح الشخصية لنظام دمشق وقياداته هي التي قادت لهذا الاستقرار والهدوء مع الجبهة الإسرائيلية دون إطلاق طلقة واحدة. أمر آخر يصب في استقرار الجانبين وكشف حقيقة الممانعة أشار إليه المعارض السوري مأمون الحمصي في تصريحات صحفية، فضلا عن سكان درعا ألا وهو قيام الطيران الحربي السوري بالتحليق بمنطقة "انخل" بمحافظة درعا فوق المدنيين، رغم أن الطيران في هذه المنطقة محرم فيها بموجب الاتفاقات الإسرائيلية ـ السورية بحكم قربها من الجولان، لأنها تمثل حزاما يمنع فيه دخول الأسلحة الثقيلة والطيران. لأول مرة يكون الاحتفال بذكرى النكبة مختلفا هذا العام، فلم يعد مقتصرا على طقوس الحنين إلى الوطن، بل بإجراءات عملية على الأرض من أجل عودة فعلية إليه، ومما لا شك فيه أن البروفة الأولى للجهد الجماهيري سيكون لها ما بعدها، ولأول مرة أيضا تشعر إسرائيل بخوف حقيقي لأسباب كثيرة من أهمها: أن تأمين الحدود من طرف الأنظمة التي تدعي الممانعة أو الموقعة على اتفاقيات السلام لم يعد كافيا كما كانت الحال من قبل، ويضاف إلى ذلك كسر حاجز الخوف لدى الشارع وإصراره على إحداث ثغرة في جدار الصمت العربي عن حق العودة الأصيل، الذي لا يمكن التنازل عنه وكل ذلك تم استلهام جزء كبير منه من روح ربيع الثورات العربية باعتراف الناشطين أنفسهم حتى على مستوى الشعارات ومنها: "الشعب يريد العودة " والشعب يريد تحرير فلسطين" وغيرهما. وبذلك كشفت كذبة جديدة للأنظمة الدكتاتورية التي كانت تفرض حالة الطوارئ بحجة الظروف الاستثنائية لمواجهة المخاطر التي تتهدد البلاد من جهة إسرائيل لتبرر قمعها وبطش أجهزتها الأمنية بينما الحقيقة أن منح الشعوب كرامتها وحريتها وحق التعبير عما تريد يقوي من الجبهة الداخلية ويزيد من تماسكها لمواجهة الأعداء الخارجيين وهو ما أثبتته فعاليات ذكر النكبة بكل جلاء.