17 سبتمبر 2025
تسجيللا يكون الفاتك في عرف الغابة غالبا أسدا ولا نمرا ولكنه الموصوف في القرآن الكريم "ذئبا" تتساءل من يكون الذئب بعرف الافتراس هذا وقد أكبر العرب في الذئب الحذر والصبر، وجعلوا من اسباغ وصفه رمزاً للرجولة والجسارة والشرف والنخوة والذكاء. ولكن الحقيقة المرّة أنك قد تجد الذئب أعني الموصوف أو الموصوفين في قصة النبي "يوسف" احيانا "منك وفيك" ليس بالضرورة أخا شقيقا أو غير شقيق فحسب بل قد يكون زميلا أو صديقا أو غيرهم من كل من قد يطلق عليه العرف زميلا وتظنه اخا لم تلده امك. في مضرب المثل القرآني السابق: هم "اخوة يوسف" أعني "أبناء يوسف" وقد طمنوا بهذه الجملة أباهم من أن أخاهم في أيد أمينة!! — ويا لعظمة منزلة الأب من القلب وتورع اللسان عن الكذب عليه — طمنوه بما لا يدع مجالا للشك وبأكثر مما تقتضيه المعايير في سبيل مواجهة الذئاب ليس فقط الأمانة بل القوة أيضا المنوطة غالبا "بالعصبة" والعصبة في اللغة هي الجماعة التي يستحيل ان يثني قوتها ذئب واحد. ومن ثم ختم الأبناء جواب "لئن" بقولهم لو حدث ما حدث أي أكل الذئبُ يوسفَ، أننا نحن الخاسرون اي الهالكون. أيُّ جزمٌ بعد هذا الجزم المعنوي واللغوي وبعد استخدام مفردات الفاظ التأكيد هذه ستقف أمام قرار يعقوب في ردء تخوفه ومنع يوسف منهم بعد كل هذه الوعود، لا بد ان يسمح يعقوب ويأمن وسيسمح خصوصا ان ابناءه اكدوا له أن معيار خسارتهم يوسف ليست خسارته فقط، انما هي انتقاص من قوتهم وقدرهم ومكانتهم في مجتمعات تؤمن بقيمة العصبة ومجدها... أي يغريك الموثوق بهم بوعود زائفة تحمل الغدر والنوايا المبيتة في طياتها. العُصبة عندهم صارت عصابة، و"الكثرة تغلب الشجاعة" كما قيل عند العرب وفي معيار العصابات لا تُغْلَب الشجاعة فحسب بل تُصرع الثقة والأمانة إذ تتبدل معايير النخوة والمروءة والأخلاق او حتى الولاء الوطنية في سبيل غايات أخرى من افرازات النفوس البشرية، خصوصا عندما تجمع العصابة "مكمن الثقة" على جعل "يوسف" في "غيابة الجبّ" القصة هنا بعموم اللفظ تنبيئك ان الثقة العامة في كل من يزعم فيهم الثقة غالبا غير مطروحة حتى لو كانوا ابناء او أخوة أو أصدقاء أو كانوا مستأمنين على أمانة، يعقوب عليه السلام كان يقظا عندما أشار اليهم بتخوفه من تحولهم على أخيهم غير الشقيق. المصلحة الخاصة وذاتية النظرة والمصالح تتآمر حتى على اي لحمة سواء كانت الدم والنسب أو الوطنية وتفتك بالعرف العام خصوصا عند تنامي الغيرة والجشع والطمع ليس فقط في الماديات والعطاءات بل حتى في المشاعر. ليست الغيرة فحسب بل الحسد لأن الغيرة قد تكون كامنة اما الحسد فهو الفاعل المتحول الى افعال ومكائد. وكم حولُنا من ذئاب بشرية لم تكن فقط ذئابا بل جمعت بين خصال الذئب ومكر الثعالب حتى عرفت الذئاب معنى من معانيها في رصيد من ثقافتنا اللغوية كما لدى "ابن منظور" صاحب لسان العرب "بأن الجمع "ذؤبان" العرب يعني: "لصوصهم ورعاعهم"، وأيضا: "صعاليكهم وشطارهم"، حتى عُرفت "هُذيل" بين العرب ب"الصعاليك الذؤبان". تروي لنا حكاية "الأصمعي" جانبا آخر عندما مرّ ببعض الأحياء فوجد عجوزاً وبجانبها شاة مقتولة وذئب مقطع الأوصال وعند سؤاله عن السبب تبين أن"الذئب الذي ربته صغيراً،كبر وفعل بالشاة ما رأه الأصمعي". بعد سؤاله أسمعته أبياتا حزينة قالت فيها: بقرتَ شويهتي وفجعت قلبي وأنت لشــــاتنا ولدٌ ربيـب غذيــــــت بدرها وربيت فينا فمن أنبــــاك أن أباك ذيب إذا كان الطــــباع طباع سوء فليس بنافع فيــها الأديـــب وربما وصف العرب اليوم الذئب بالشهامة فيذكرون في المدح: "فلان ذيب"، و"كفو يا ذيبان" دلالة علي الثناء والتقدير.. ولكنهم — أعني وارثوا قصص الذؤبان من العربان — ما لبثوا يذكروننا دائما بمقولات "إذا تمنيتَ فاستكثِر، إذا ذكرتَ الذئب فالتفِت"، ربما كانوا يقصدون التحذير من ذئاب البشر حتى أبدع شاعرهم: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوّت إنســــان فكدت أطير وحتى ضربوه أعني "الذئب" مثلا للنفاق، ورمزوا به للأشخاص الذين لا تهمهم إلا مصالحهم الخاصة، فقال شاعرهم: وإذا الذئاب استنعـــجت لك مرة فحــذار منها أن تعود ذئابا فالذئب أخبث ما يكون إذا اكتسى من جلد أولاد النعـــاج ثيابا وقصّة النبي يوسف خير عبرة وعظة لأي ممن يُخلِف الظن من الذئاب ممن اعُتقد انه موثوق به وقد قيل كل ذي نعمة محسود حتى لو كانت نعمة الحبّ أو الثقة فيه في أسرته، في عمله، في وطنه — فيعادي ويكره أو تحاك له الحيل من قبل ذئاب في الغابة الكبيرة لأن أباه لا"يفتؤ بحبه أو بذكره". "يوسف" أيها القراء الأعزاء هو اي واحد منكم اليوم ممن ما زال في جبّ عميق....أو سجن سحيق... او في المشهد الأخير من تقفي أثر القميص ولون الدام الزائف. مشهدٌ فقطْ..... فوقه انتصار رباني يرد الأعمى بصيرا...