11 سبتمبر 2025
تسجيلاكتسبت العملات الرقمية خلال الفترة الأخيرة زخماً كبيراً، إلى درجة أن كثيراً من صغار وكبار المستثمرين لجأوا إلى سوق العملات الناشئ والمشرق كما يراه مرتادوه، عبر ضخ مبالغ طائلة استشرافاً لمستقبله الواعد، فقد أعلنت شركة "تيسلا" الأمريكية مؤخراً عن استثمارها لمبلغ مليار ونصف المليار دولار أمريكي في عملة البيتكوين، وعزمها قبول العملة للحصول على منتجاتها، ما أدى إلى ارتفاع تاريخي لسعر البيتكوين لامس سقف الخمسين ألف دولار. من جانبها أعلنت السلطات الكندية عن موافقتها على إطلاق أول صندوق استثماري للبيتكوين في البورصة على مستوى العالم، كما أعلن مؤسس شركة تويتر جاك دورسي عن عزمه إنشاء مؤسسة تعمل على تمكين البيتكوين لتصبح عملة الإنترنت المعتمدة. ولكن ما العملات الرقمية أو العملات المشفرة كما يسميها البعض؟، بدأت قصة العملات الرقمية بإطلاق عملة البيتكوين في عام 2009 من قبل شخص مجهول يدعى "ساتوشي ناكاموتو"، ولم تكن قيمتها في ذلك الوقت تساوي شيئاً، فقد كان سعر البيتكوين حينها 0.001 دولار، وفي فبراير من عام 2011 بلغت قيمة العملة دولارا واحدا، ويتوقع بعض الاقتصاديين أن يرتفع سعر البيتكوين ليصل إلى مستويات قياسية قد تبلغ مليون دولار للبيتكوين الواحدة! كونها أصبحت تمتلك عوامل الندرة والموثوقية والطلب المتزايد شأنها في ذلك شأن الذهب، وعليه وبحسب ما يرى خبراء فإن البيتكوين تمثل مخزناً مأموناً للثروة. وأمام النجاح الذي تحققه البيتكوين حتى الآن على الأقل، تم إصدار العديد من العملات المشفرة على غرار البيتكوين وأصبحت هناك منصات عديدة لتداول هذه العملات، وقد تجاوز حجم سوق العملات الرقمية مؤخراً حاجز التريليون دولار!، ومع ذلك لا تزال وجهات النظر تتباين عند تقييم هذا السوق الضخم وتوقع مستقبله بين متفائل ومتشائم، حيث يرى المتشائمون لهذا السوق بأنه ليس سوى فقاعة ستنفجر يوماً في وجوهنا، وأنه سوق محفوف بالمخاطر وغير مأمون الجانب بسبب لا مركزية العملات الرقمية واعتمادها الكلي على التكنولوجيا، في حين يرى المتفائلون أن هذه العوامل تشكل مصدر قوة للعملات الرقمية وستكون بفضل ذلك عملات المستقبل، وحجتهم في ذلك أن التكنولوجيات سواءً تلك التي تعتمد عليها العملات الرقمية، أو التكنولوجيا في صورتها الشاملة ما هي إلا أمر واقع تعتمد عليه حياتنا ويتوقف عليه مستقبلنا. تتميز العملات المشفرة باللامركزية مع إمكانية نقل العملة من طرف إلى آخر دون الحاجة لوجود وسيط بينهما، "كالبنوك أو المؤسسات المالية" عبر استخدام ما يعرف "بالبلوك تشين Blockchain"، وهي تقنية ثورية يمكن تلخيصها بأنها سلسلة لا مركزية من السجلات الموجودة في حواسيب متعددة حول العالم تقوم بحفظ بيانات العملة والعمليات المرتبطة بها وكافة المتغيرات عليها، حيث يمكن الاطلاع عليها من قبل عدد كبير من الأشخاص دون إمكانية معرفة مالك العملة تحديداً، حيث توفر هذه العملية حماية كبيرة يصعب بل يستحيل اختراقها أو تزويرها. ينطوي على هذه التقنية جانبان أولهما أن هذه الآلية تمثل أفقاً واعداً يعول عليه كثيرون بأن يتم تسخيره واستخدامه مستقبلاً في توثيق أمور عديدة من العقود الرسمية إلى الملكيات الخاصة بحيث تكون الضمانات للملكيات مرتبطة بتلك السلسلة اللامركزية عبر وجود ما يشبه "الإجماع العام" يقر بالعمليات التي تتم في هذا الإطار، وهو الأمر الذي يعد خارجا عن سيطرة أي سلطة مركزية أو دولة، أما الجانب الآخر فيتمثل في امكانية استخدام العملات الإلكترونية وما توفره لها تقنية البلوك تشين من خصوصية في عمليات تمويل الإرهاب والنشاطات غير القانونية، "وهو ما يثير قلقاً كبيراً لدى كثير من السلطات الرسمية حول العالم"، إلا أن التحفظ المتعلق بالنشاط الإجرامي وغير القانوني الذي سيترتب على استخدام العملات الإلكترونية لا يمكن أن يكون حائلاً دون النظر لها بشكل أكثر جدية بل إنه يتطلب التعامل معها بعقلانية وموضوعية. في بداية ظهور العملة المشفرة كان يتم النظر لها بعين الريبة والحذر اعتقاداً بأنها مجرد عملة مبنية على الوهم وستزول لا محالة، وعلى أن هذه النظرة لا تزال راسخة لدى كثيرين في عالمنا العربي خصوصاً، نجد أن العملات المذكورة تجاوزت هذه الهواجس ويمكننا القول إنها أصبحت أمراً واقعاً لا يمكن تجاهله، فدولة كالصين مثلاً، تعاملت مع العملات الرقمية في البداية بتحفظ وريبة، ثم ما لبثت أن أدركت مستقبل هذه العملات، وها هي الآن تعمل على إصدار عملة رقمية خاصة بها، استدراكاً منها للتموضع على طريق المستقبل، فضلا عن ذلك فإن كثيراً من الشركات المالية الكبيرة مثل "باي بال" "وفيزا" و"ماستر كارد" عملت على استيعاب العملات الرقمية وأدرجتها ضمن عملياتها المالية، ناهيك عن شركات عملاقة مثل "آبل" و"قوقل" وغيرها والتي أدخلت تلك العملات ضمن أنشطتها واهتمامها، بجانب ذلك فإن هناك ما يشير إلى استثمار بعض الدول في العملات الرقمية دون التصريح بذلك. من جهة أخرى لا يمكننا النظر للعملات الرقمية التي انطلقت شراراتها بإطلاق عملة البيتكوين، بشكل سطحي، والتسليم بأن مؤسسها شخص مجهول دون التشكك في وجود مؤسسات مالية دولية وعالمية تقف خلف إنشائها، وقد تكون العملات الرقمية ما هي إلا نظام عالمي جديد ينسخ النظام القائم ويحل محله، فالعملات الرقمية ستعمل بلا شك على تمهيد الطريق أمام العولمة المتجذرة أساساً بأجلى صورها في واقعنا المعاش، وستحول العالم من قرية صغيرة متصلة بالإنترنت اللامركزي إلى قرية أصغر تتجاوز كافة أشكال المركزية، والسؤال هنا يتعلق بمدى مشروعية الهواجس التي تغلف تعاطي الدول مع هذه الظاهرة، وهل يمكن للدول التعامل مع هذا الواقع المثير للقلق عبر الصدام معه، أم أن هناك إمكانية لاستيعابه على الرغم من أنه يعمل على إلغاء مركزية النظام المالي للدول ويعمل على إضعاف دور البنوك المحلية والمركزية عبر إلغاء الوسيط الثالث؟. وعلى كل لا يمكننا الجزم بمستقبل العملات الرقمية، وفي ذات الوقت ينبغي لنا عدم النظر لواقع تلك العملات كمجرد فقاعة ستنتهي لا محالة بهجمة سيبرانية جانحة، فواقع العملات الرقمية يثبت أنها تجاوزت هذا المنعطف بكل تأكيد، في المقابل ينبغي عدم التقليل من هواجس الدول والحكومات حيال انتشار العملات الرقمية اللامركزية، فبحسب دراسة أجرتها مؤسسة "راند" الأمريكية، تحت عنوان "تداعيات العملة الافتراضية على الأمن القومي: البحث في إمكانية النشر من جهة فاعلة غير حكومية"، خلصت تلك الدراسة إلى أن استخدام العملات الرقمية من قبل منظمات متمردة يواجه تحدياً في الوقت الراهن وقد لا يكون الخيار الأمثل لتنفيذ أنشطتها، إلا أنه سيكون كذلك في المستقبل، ومن جهة أخرى يأتي سؤال ملح حول كفاية الآليات الحالية في مواجهة واقع العملات الرقمية وهل ينبغي استيعاب هذا الواقع عبر سن التشريعات القانونية ووضع الآليات التنظيمية وتقنينه والتسليم بوجوده، وأن تسعى الدول إلى أن تتبوأ موقعاً مهماً في هذا الطوفان الجارف وعدم ترك الفرصة لتفوت، أم يكفي اتخاذ موقف الإنكار دون وضع آليات واضحة لتكييف الوضع القانوني للمتعاملين بتلك العملات؟ والمضي قدماً في التعامل بحذر وتوجس مع واقع هذه العملات المشفر والغامض؟.