11 سبتمبر 2025

تسجيل

حين تتحدث الآثار عن القدس

18 يناير 2024

يبدو أن تاريخ القدس -في حد ذاته- يفتح أبواباً واسعة على مجالات غامضة تستعصي على البحث، وهي لا تزال مثار جدل بين المختصين حتى الوقت الحاضر! إذ يعتقد المؤرخ مؤلف الكتاب أن هذا التاريخ يتداخل من جهة مع ظهور المستوطنات الرعوية والزراعية في حقبة ما قبل التاريخ، ومن جهة أخرى مع الهجرات الأولى لشعب الآموريين إلى بلاد الشام، ومن جهة ثالثة مع هجرات الكنعانيين واستيطانهم أخيراً أرض فلسطين. والمؤرخ إذ يعرض لهذه الهجرات، فهو يحذّر من الوقوع في فخاخ المرويات التوراتية التي تحلّق بالتاريخ بعيداً نحو الملاحم والأساطير والحكايات الشعبية، والتي من شأنها إعاقة تمييز ملامح التاريخ الحقيقي.. وهو يرى أن هذه المرويات قد أطاحت بآراء أكثر العلماء جدية ورصانة. لذا، ينحي المؤرخ في منهج البحث التاريخي الذي اعتمده عند تناوله تاريخ القدس القديم أيا من تلك المؤثرات الدينية التوراتية، لا سيما فيما يتعلق بنشأة مدينة القدس في العصرين البرونزي والحديدي، أي خلال ما يقرب ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، التنحية التي قد يجدها البعض صادمة لما درج عليه البحث التاريخي من أخذ الخلفية التوراتية بعين الاعتبار، ويعتمد بدلاً عنها على علم الآثار واكتشافاته الحديثة القائمة على تطور العلوم والبحوث التاريخية الرصينة، وتحديداً الآثار المنقولة والثابتة عن أرض مدينة القدس.. في محاولة استقرائية منه لكشف خفايا تلك الآثار من أحداث تاريخية، والإجابة على العديد من التساؤلات المفصلية. لذا، يقول المؤرخ بعد أن يستعرض مادة بحثه: "أملنا كبير جداً ألا يقع الباحثون (والعرب منهم بشكل خاص) في شرك المرويات التوراتية وهم يتناولون تاريخ فلسطين والقدس، وأن يعودوا إلى علم الآثار الذي يقف بقوة صارمة أمام المرويات ويفنّدها، وهو الذي أعاننا على كتابة هذا الكتاب". وعن المؤرخ، فهو (د. خزعل الماجدي 1951)، أكاديمي وباحث ومؤرخ وشاعر، حاصل على درجتين في الدكتوراة، الأولى في التاريخ القديم والثانية في فلسفة الأديان، ويعمل كأستاذ جامعي في تاريخ الفن والحضارات والتاريخ القديم، كما أنه عضو في اتحاد المؤرخين العرب واتحاد الكتّاب العرب. وبالإضافة إلى مؤلفاته المسرحية، فقد أصدر أكثر من خمسين كتاباً في المجالات الفكرية والعلمية والأدبية، بين الأديان والفن والشعر والاستشراق والتاريخ والحضارات والأساطير، وقد تُرجم بعض منها إلى لغات أجنبية. تعتمد مراجعة كتاب (تاريخ القدس القديم: منذ عصور ما قبل التاريخ حتى الاحتلال الروماني) على الطبعة الثالثة الصادرة منه عام 2021 عن (دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع)، وهو ينقسم إلى أربعة فصول رئيسية يندرج تحت كل منها عدد من المباحث. هي: (الفصل الأول: فلسطين في عصور ما قبل التاريخ): ويبحث في أرض القدس -قبل تأسيسها كمدينة- عن قرى ومستوطنات رعوية وزراعية، كمحاولة للتعرف على النمو الحضاري الذي ساد الشرق الأدنى ككل مع نهاية العصر الحجري القديم ونشأة الحضارتين الكبارية والنطوفية على أرض فلسطين، ما عمل على نقل الأرض إلى مستوى حضاري رفيع ومبكّر نحو العصر الحجري الحديث ومن ثم العصر النحاسي، وقد عجّل بنشأة المدن ككل ومهّد لولادة مدينة القدس. (الفصل الثاني: القدس في العصر البرونزي): وهو العصر الذي شهدت بداياته تأسيس مدينة القدس على يد الآموريين، خلاف ما يذهب إليه بعض الباحثين من تأسيسها ابتداءً على يد اليبوسيين، حيث إنه -وفق البحث الآثاري- فقد شهد العصر البرونزي المبكر ظهور مدينة القدس الأولى (الآمورية)، بينما برزت مدينة القدس الثانية (الكنعانية) في العصر البرونزي المتوسط، في حين توّج العصر البرونزي المتأخر ظهور مدينة القدس الثالثة (اليبوسية)، وقد كان لكل مدينة على حدة تاريخها وأحداثها وآثارها وعمرانها ودياناتها. (الفصل الثالث: القدس في العصر الحديدي) وهو يختص بتاريخ القدس في الألف الأول قبل الميلاد، وهو العصر الذي يُعتبر الأكثر إثارة للجدل من حيث تأثير الروايات التوراتية في صنعه عند معظم المؤرخين والباحثين، بحيث استعصى تنقية البحث العلمي النزيه من أوهامها! ففي هذا العصر، لا يظهر أي دليل أثري على غزو القبائل الإسرائيلية المزعوم لأرض فلسطين، ولا نشأة مملكتي إسرائيل ويهوذا وتوحيدهما، ولا بعثة النبيين داوود وسليمان، إذ يخلو تاريخ فلسطين ومنطقة الشام بل وتاريخ الشرق الأدنى ككل من تلك الأحداث. غير أن العصر الحديدي الثالث -والذي يتقاطع مع الاحتلال الفارسي للقدس ثم الهيلنستي- فيشهد ظهور الدين اليهودي كمكمل للدين اليهوذي السابق له، ومعه يستهل تدوين نواة التوراة. الفصل الرابع: (القدس في العصر الهيلنستي-أورشليم الهيلنستية) وهو يفتح الأبواب المؤصدة حول نشأة الدين اليهودي الحقيقي لا التوراتي، حيث يتعرّض للفترات البطلمية والسلوقية التي تبدو أنها قد صقلت الدين اليهودي وأتمّت كتبه وشرائعه وطقوسه، إلى الاحتلال الروماني للقدس والذي يشكّل مع الاحتلال البيزنطي لها مادته التاريخية الأساسية. ختاماً، لقد كان المؤرخ من العزة أن يقدم كتابه إلى "فلسطين الصابرة على جرحها، ولشجاعتها في الصمود والقوة" وهو يتمنى أن "يعزز من أصالة شعبها الفلسطيني الحاضر (العربي الكنعاني الآموري) الجذور فيها". [email protected]