14 سبتمبر 2025
تسجيلالساعة الخامسة صباحاً يرن جرس المنبه ليُحدث في عقلي اهتزازاً مزعجاً، أستيقظ من النوم لأتخلص من بقايا أحلامي البالية، فتتشبث بي وسادتي لتمنعني من الرحيل، أتصارع معها بعينين شبه مغلقتين وحاجبين غاضبين فأطرحها صريعة، تتناثر على خريطة ملامحي مياه صالحة للشرب بها نسبة أملاح لا يُستهان بها، لأعيد الكرّة مرّات عدة حتى أستفيق من غفلتي الناعسة، ثم ألتقط لوجهي انعكاساً بمرآتي، من أنا؟ ما اسمي هذا اليوم؟ لا أعرف ، أنا مجرد كائن بشري يسير على الأرض بطريقة عكسية. انتهيت من المرآة و دوران شريط تنبؤاتي أمام ناظري وردود أفعالي المتوقعة لهذا اليوم، أدخل إلى المطبخ، ثم أتناول رغيفاً ساخناً، وأحتسي فنجاناً من القهوة، حتى لا يتبقى به سوى مقبضه فأدّخر التهامه إلى اليوم الذي يليه، ثم أسير على الهواء هرولةً، وأهرول زحفاً حتى أكون في منتصف وقتي، أمتلك عقارب وأرقاماً، أقلاماً وحروفاً، غيوماً وأمطاراً، رعداً وبرقاً، ولكنني لا أملك أنهاراً. كنت في هذا اليوم أرى ما لا يراه أحد، لا ألمح سوى ظلي الوحيد، شمس باردة أشعر بها وقد اخترقت أشعتها زجاج الصالة ذات اللون السكرّي، رائحة العود الكمبودي تضوع في أرجاء منزلي وتتصاعد في الفراغ، راديو والدتي الجلدي مُعلّق على الحائط المتوّجع من انغراس المسمار به، تتراقص الستارة المخشوشنة بفعل نسمات الهواء ذات البرودة القارسة ملوم ذيلها المنسدل متحركاً بإغواء على أغنية محمد عبده ... " تذكٌر .. صوتك يناديني ... تذكر ... تذكر ... تذكر الحلم الصَغير ... وجدار من طين وحصير ... وقمَرا ورا الليل الضرير ... على الغَدير ... لاهَبٌت النسمَة تكسر ... " يا لهذا الصباح الغريب، أبحث عن صدى لصوتي، لا يسير معي إلا ظلي، ويختبئ خلف ظهري الصمت وتجمدّني لسعات البرد، ربما هذا الصباح لي لا يعيش به أحد سواي وصديقي الظل الذي غالباً ما أشعر بانكساره فأقسو عليه، ثم أمارس معه تناقضاتي فأحزن عليه كثيراً، تارةً أنعته بأنه عدوي الجميل وتارةً أخرى بصديقي العطوف، وهو يراني بعينين ماكرتين وابتسامة يعلوها حزن. خرجت من باب منزلي حتى داهمتني رائحة المطر، وتلقيت صفعة من ذلك الهواء البارد، فوضعت فوق رأسي شوارع وبشراً ومنازل وأفكاراً ترافقني، وأنا أمتطي سيارتي وأشتم خليطا من رائحة المحرّكات وبقايا المطر، نظرت إلى ساعتي وهي تشير إلى السادسة والنصف صباحاً، شعرت بشوق إلى كوب آخر من القهوة ليعيدني إلى صوابي، فلا يزال الوقت مبكرّاً. ذهبت إلى أحد المقاهي التي تطل على بحر كورنيش الدوحة، جميع من في المقهى هم أنا وظلي وطاولة لم يرتكن عليها سوى رجل واحد، وأما بقية الطاولات فإنها تفتقد البشر في هذا الصباح اليتيم، سحبت كوبي الممتلئ بالقهوة واندفعت إلى خارج المقهى وقد اكتظت السماء بغيوم رمادية وهطل المطر من جديد. اقتربت من مكان عملي، وقد اختلفت أشكال قطرات الغيث وكأنما قناديل تضحك وتنزل إلى مبنى الوزارة، مظلاّت تهبط وبها بشر أعينهم لامعة، وكانت تحفهم السيمفونية التاسعة لبيتهوفن يتمايلون على لحنها وهم يتهافتون أمام الباب، أدلفت من باب سيارتي وبيدي قهوتي وعيني متسمرّة على " برشوتات " تهبط في كل مكان، يحيطون بالوزارة ويطوقونها ويركضون على سطحها، تعلوها بعض الأدخنة ومدفعيات تكسر السور، دخلت لأبحث عن إجابة فوجدت علامات الاستفهام تتساقط على رأسي، هؤلاء اقتحموا وزارتي! حطموا أبواب المكاتب فرحين، سرقوا أقلامي وأحرقوا أوراقي، اعتقلوا طموحي وطموح من هم حولي. لم أعرفهم جيداً، من هؤلاء؟ صوت لراديو آخر في أحد الممرات يتناقل خبر ذلك الاحتلال وصوت المذيع يصدح بالمكان، تتخلل أخباره بعض الفواصل لأغانٍ وطنية وأشعار حماسية، ولازلت لم أفهم ما الذي يحدث حولي، إلا بعد أن أُطلقت رصاصة في رأس طموحي من أسلحة جنود الاحتلال، وانتثرت أشلاء القهوة وأنا أنتظر دوري ليتم انتشال جثة آمالي وجثث الموظفين الشهداء، لم أكن أعلم إلا بعد وفاة طموحي بأن وزارتي قد أاحتلت من قبل مسؤولين جدد لم يولدوا يوماً في وزارتي، لم أكن أعلم أن سعادته يعشق رائحة الغربان! لم أكن أرغب مشاهدة هؤلاء الأغراب وهم يأمرون وينهون وأبناء ذلك المكان ما بين نفي وتهميش واعتقال، لم أكن أعلم ذلك إلا بعد حين وقفت عند باب أحدهم، لم يُفتح الباب لي إلى الآن، فاكتفيت بإخراج الناجين من تحت الأنقاض، فأؤازرهم وأذرف دمعاً بذرف دموعهم، ولا تزال "البرشوتات" تهبط، ولا زلنا نُضطهد! وسعادته " مستأنس ... الله يديم عليه الوناسة ويا فرحتي فيه". نهاية المعركة:عدت إلى المنزل وأنا عبارة عن مكعبّات صغيرة مُتفرقة، لم أجد من يلم أجزائي، وبهدوء مستميت أخرجت بعض الشظايا من قلبي الذي تحول إلى مُكعب متوقد، فأطفأته بعضاً من شذرات دموعي التائهة، ثم وجدتني وحيدة، أغلقت كل المنافذ التي رمتني بشرر، جلسنا معاً أنا ومكعباتي في أحد أركان غرفتي دونما ظلي الذي استشهد هناك، دقيقة صمت على روحه الطاهرة، ثم استمعنا إلى آخر الأغنية: " ريانَة العُود ... نادي ... نادي الليَالي تعُود .. بشوق الهَوى ... بوعُود ... بوجهي اللي ضيعته زَمَان ... في عُيُونك السٌود ... يا الضحكة العَذبة ... عَنك الصٌبر ... كِذبه ... وفيك العُمر موعود"...