18 سبتمبر 2025
تسجيلما كشفه برلسكوني من"أن ما حدث في ليبيا لم يكن ربيعاً عربياً، أو ثورة شعبية بل تدخلاً أرادته فرنسا"، يمثل لطمة كبيرة لكل الذين راهنوا على ما يسمى بــ"الربيع العربي" وصدمةً لكل الإحساس الجماهيري الشعبي لأمتنا من المحيط إلى الخليج: في المراهنة على المتغيرات الثورية القادمة. وإمعاناً في المساس بشعور مقدس لمواطن هذه المنطقة يذهب رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق في توضيحه خلال مقابلته لوكالة الأنباء الإيطالية قائلاً "إن ما حدث في ليبيا جرى وفق قرار للحكومة الفرنسية بالذهاب إلى هناك، والتدخل في نزاع داخلي وتقديمه في إطار المجتمع الدولي على أنه ثورة، وهاجمت الطائرات الفرنسية ليبيا قبل أن يتم اتخاذ قرار مشترك والبدء في قصف قوات القذافي". ونحن نعيش إرهاصات مرور سنتين على بدء الانتفاضات العربية، فبالسؤال عما تم إنجازه من متغيرات ثورية على صعيد بلدان الثورات، يتضح أن هناك انفصاماً كبيراً بين مراهنات الجماهير الشعبية والأمة بأسرها وبين الواقع الصادم لوضع هذه المتغيرات. باختصار هي كانت انتفاضات جماهيرية في غالبيتها لكن لم تكتمل إلى ثورات، فأدنى أسس علم الثورات في مختلف المدارس الأيديولوجية-الفلسفية يفترض أن الثورة بحاجة إلى برنامج تقف من ورائه قوة قادرة على التغيير، والقوة بحاجة إلى قيادة متمكنة. والثورة بحاجة إلى كسر بنية النظام السابق إن من حيث القوى المشكلة له أو آلية عمله، وكذلك سياساته الاقتصادية الاجتماعية والسياسية، وهذا ما لم يحصل في بلدان ما يسمى بــ(الربيع العربي)!الذي حدث هو استبدال وجوه بأخرى في ظل وجود منفذي وأرباب سياسات العهد السابق أولاً، وجرى تكيّف القيادات الجديدة وفقاً للسياسات السابقة ثانيا، وهذا لم يجرِ عبثاً ولا عفوياً بقدر ما هي عملية تكالبية بين: قوى جديدة ساعدتها ظروفها على تسلم السلطة في بلدانها وقوى خارجية أرادت إزاحة خطوط مسار الانتفاضات العربية عن دربها الصحيح . بل أعادته خطوات كبيرة إلى الوراء. منذ نشأة القضية الفلسطينية وظهورها إلى الساحة. ارتبطت دوماً بالتحولات الكبرى العربية. فالثورات التي جرت في العالم العربي كان أحد شعاراتها الرئيسة العمل من أجل فلسطين، وكان الحكم على الثورة جماهيرياً(ليس على الصعيد الفلسطيني فحسب وإنما على صعيد الأمة العربية أيضاً) يرتبط بمدى تبني هذه الثورة أو هذا المتغير العربي للقضية الفلسطينية اقتراباً أو ابتعاداً. هذا الأمر خلق نوعاً من الارتباط العضوي بين القضية الفلسطينية والتطورات العربية، حيث إن هذه المتغيرات العربية أثرت وتأثرت بالقضية الفلسطينية. والأخيرة أيضاً تأثرت وأثرت في الأحداث العربية. المتغيرات العربية الجديدة لم تؤد إلى تثوير الوضع العربي للأسف. لذا نرى أنه وبدلاً من المزيد من الالتصاق بين المسألتين شهدنا ونشهد مزيداً من النأي والانفكاك عن القضية الفلسطينية على قاعدة "أهل مكة أدرى بشعابها". هذا الأخير للأسف لعب فيه العامل الفلسطيني دوراً تقزيمياً. فبدلاً من المطالبة بتثوير الوضع العربي جرى العكس تماماً. وهو ما أدى إضافة إلى سياسة النأي التي ابتدأت بوادرها بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد. تلاها:اتفاقية أوسلو، ومن ثم: وادي عربة، واتفاقيات أخرى ظلّت خفية، الأمر الذي أدى إلى اختزال الصراع مع العدو من شكله العربي المتمثل في الصراع العربي-الصهيوني إلى الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وصولاً إلى الخلاف أو النزاع(تصوروا ابتعاد هذه التعابير عن الحقيقة والواقع). بالتالي فإن المتغيرات العربية أيضاً: لم تؤد إلى وجوب التزام القيادات الحاكمة بالشعارات الجماهيرية. وبشكل خاص حول فلسطين، ففي حمّى انتفاضة الجماهير الشعبية في مصر كان شعار: وجوب إلغاء اتفاقية كامب ديفيد. وجرى حصار جماهيري للسفارة الإسرائيلية في القاهرة ومن ثم اقتحامها. وفي بلدان عربية أخرى تم رفع شعار تحرير فلسطين، إلا أن القيادات الجديدة وبدلاً من الالتزام بأيديولوجيتها السابقة وركائزها الإستراتجية (قبل تسلم الحكم) في التعامل مع العدو الصهيوني، تراجعت عن كل ذلك لصالح "التعايش مع إسرائيل"، و"عدم تحريم التطبيع معها"، وكان ذلك في ظل المزيد من التشدد الإسرائيلي في التنكر للحقوق الوطنية الفلسطينية أو الأخرى العربية. أو ما يسمى بــ"مبادرة السلام العربية" واشتراطات جديدة تريد إسرائيل فرضها على الفلسطينيين والعرب كالاعتراف بــ"يهودية الدولة الإسرائيلية" ومعادلة"سلام مقابل سلام" وليس "سلام مقابل الأرض"، هذا على سبيل المثال وليس الحصر. المتغيرات العربية لم تؤد إلى إيجاد مشروعين متناقضين عربيين تجاه التعامل مع إسرائيل. فالنظام الرسمي العربي حسم خياراته السياسية في ما أطلق عليه"مبادرة السلام العربية". بمعنى آخر لم تؤد المتغيرات إلى مبادرة إستراتيجية عربية جديدة. فهذه مرتبطة بوجود النظام السياسي الجديد. والاستجابة لضغوطات الجماهير من أجل التغيير باعتبار ذلك أمراً واقعاً. وهناك عوامل أخرى عديدة غيرها. لذا لم تحقق المتغيرات أسسا إستراتيجية جديدة. فقد قُطفت ثمارها قبل نضوجها. إن ما أدت إليه:هو ظهور تحالف رسمي عربي جديد بدلاً من آخر قديم. من حيث التأثير في الوضع العربي مع تناسٍ مطلق لهذا التأثير عموماً في الوضع الدولي سواء بالنسبة للقضية الفلسطينية أو غيرها من القضايا العربية المركزية الأخرى. منذ بداية الحراكات الجماهيرية العربية حرصت الولايات المتحدة (وهي تتكلم بلسان الببغاء الإسرائيلي) والدول الغربية عموماً: على خوض نقاشات ومقاربات وإجراء ندوات فكرية مع القوى المؤثرة في هذه الحراكات. في كل من واشنطن وعواصم هذه البلدان وذلك للأهداف التالية: أولاً: ضمان علاقات جيدة بين واشنطن والغرب عموماً والأنظمة الجديدة في هذه البلدان. بشكل تحرص فيه هذه البلدان على بناء(أو على استمرارية العلاقة بالشكل الذي كان) أفضل العلاقات مع الطرف الأول. وبخاصة أن الولايات المتحدة تقدم مساعدات لهذه البلدان. ثانياً: الحرص على الاتفاقيات المعقودة بين بعض هذه البلدان وإسرائيل مثل اتفاقية "كامب ديفيد". وضمان عدم اتخاذ سياسات هذه البلدان لعلاقات راديكالية ثورية ضد إسرائيل بل بالصورة التي حددتها واشنطن: أن المدخل إليها يمر من البوابة الإسرائيلية. ثالثاً: استغلال الظروف القائمة حالياً لتمرير تسوية وبالشروط الإسرائيلية في المنطقة، والتي تراعي الأمن الإسرائيلي واشتراطاته. وعدم وجود مستقبلي لكل ما يهدد هذا الأمن: سواء من الدول العربية أو من دول المنطقة على طريق بناء الشرق الأوسط الجديد أو الكبير، الذي تبرز فيه إسرائيل كدولة مهيمنة في الشرق الأوسط. هذا يتماشى مع سياسة محو وتقسيم البلدان العربية (وهو ما تناولناه في مقالة الخميس 10 يناير الحالي). لهذا فإن فكرة الأمين العام الحالي لجامعة الدول العربية لعقد مؤتمر دولي للسلام في المنطقة، وهو ما كان ينادي به طيلة ترؤسه للخارجية المصرية. توارت ولم يجر طرحها على جدول أعمال الجامعة حتى اللحظة. لهذا يجرى إشعال حرائق (فتن. استهداف. تهجير. تركيز إعلامي كبير على الخطر الفلسطيني القادم وغيرها) في المخيمات الفلسطينية في أكثر من بلد عربي. لهذا يجرى إعادة إحياء مفاهيم مثل: الفيدرالية. الكونفيدرالية. التقاسم الوظيفي. التوطين. إعادة التهجير. الوطن البديل وغيرها من الاصطلاحات الشبيهة. تمرير التسوية الإسرائيلية – الأمريكية – الغربية تظل الهاجس الأول والأخير لواشنطن. ولذا فلربما نشهد في القريب العاجل: محاولات عديدة لتمرير التسوية في المنطقة وإشعال حرائق جديدة في المنطقة العربية. ولكن ليس كل ما تخطط له إسرائيل وأمريكا وحلفائهما قدراً مفروضا علينا بل يمكن إفشاله مثلما تم إفشال الكثير من المحاولات السابقة.