10 سبتمبر 2025

تسجيل

المقومات الأساسية للحضارة الإسلامية

18 يناير 2012

كان حديثنا في المقالات السابقة كلها مضى عن الجانب الأول من معادلة التغيير، وتناولنا فيه دراسة الواقع، وحددنا من خلاله الأزمات الرئيسية الخمس التي تعاني منها الأمة، وهي أزمة السلوك والفاعلية والتخلف والقيادة والفكر، والآن نتناول الجانب الثاني من معادلة التغيير، والذي يتحدث عن رؤيتنا للحضارة الإسلامية المعاصرة، وسنتكلم فيه عن أمرين: - توصيف حضاراتنا الإسلامية - تحديد الأهداف التنافسية توصيف الحضارة أعتبر أن توصيف الحضارة التي نريد هي أولى خطوات النهوض، لأن العلماء والمفكرين والدعاة، لا يتخيلون شكلاً واحداً لحضارة الإسلام التي نريد، فغالبيتهم يتخيلونها كما هي في أيامها الأولى المباركة، مع أنهم متفقون على تغيّر الزمان والمكان والإنسان. وهناك قضايا ومتغيرات اختلف عليها العلماء قديماً وحديثاً، ونتيجة لذلك اختلفت تصوراتهم عنها في الوقت الحاضر، مثل بعض القضايا المتعلقة بالمرأة، وأهل الذمة، وعلاقتنا مع الآخر، ومسألة حرية التعبير والتفكير وحتى التصرف، وغيرها من المسائل التي قد يختلف فيها المنظرون والمفكرون، ولا يتفقون معها على حدود معينة. الذوبان في الحضارات الأخرى من الخطير جدا أن نذوب في حضارات الأمم الأخرى، هذا على فرضية أنها الآن حضارات، لأن ما نعيشه اليوم بعيد عن الحضارة بقدر ما هو تحقيق للملذات وانفتاح للشهوات، وإطلاق لجشع الفرد والمؤسسات والقوى العظمى، ومع وجود التطور الرهيب في الصناعة والاختراع فإن هذا مع روعته لا يعكس حضارة متكاملة ولا يمكن أن يقيم أمة مترابطة. لذلك فأنا وغيري ندعو دائما لبناء تصور حضاري يقوم على قيمنا وثوابتنا ويستلهم عبقه من حضارتنا السابقة ويستفيد من الحضارات الأخرى بعقل منفتح. المقومات الأساسية سنقوم بتوصيف الحضارة الإسلامية من خلال تحديد مقوماتها الأساسية، والتي كنت سبباً في بقائها وسعة انتشارها، وهذه المقومات بشكل مجمل هي: 1. المقومات الإيمانية 2. المقومات التشريعية 3. المقومات الأخلاقية 4. المقومات العملية 5. المقومات الجماعية ولنبدأ بالحديث عن المقومات الإيمانية للحضارة الإسلامية. المقومات الإيمانية للحضارة الإسلامية تتمحور إيمانية الحضارة الإسلامية، عند (التوحيد) وتنطلق منه.. "إنه نقطة الجذب والإشعاع معاً.. القلب الذي يعطي ويأخذ، يضخ ويتلقى د.عماد الدين خليل ويقول ابن خلدون رحمه الله: الهدف من التوحيد ليس مجرد تحقيق الإيمان فقط، فذلك بين العبد وربه، ولكن كمال التوحيد في تحول الإيمان إلى واقع في السلوك التطبيقي للعبد، وبالمقابل تهدف العبادات إلى تحقيق استسلام العبد وانقياده لخالقه، حتى يصفو قلبه من أي أمر يصرفه عن الله تعالى، وبهذا يصبح المرء مسلماً حقاً، ويكون ربانياً بصدق" بتصرف. يشير ابن خلدون رحمه الله إلى مسألة غاية في الأهمية، ويغفل عنها كثير من الناس، وهي أن العقيدة والإيمان في الإسلام عقيدة حركية عملية تطبيقية، فلا قيمة لعقيدة في القلب ما لم يتبعها عمل، والعقيدة الخالية من التطبيق من السهل جداً أن تغزوها الأفكار والعقائد الأخرى، التي لم تُقدّم بصورة مجتمع حي متفاعل مع الثقافات الأخرى الوافدة إليها. حضارة تُبنى على العقيدة أولاً هدفنا النهائي من هذا الطرح أن نضع خطة، تنطلق من واقعنا اليوم باتجاه بناء حضارة الإسلام، التي نرنو إليها ونتغنى بأمجادها، حضارة نبنيها بطريقة جديدة تراعي تغير الزمان والمكان والإنسان، مع الحفاظ على الأصول والثوابت، ومن أهم تلك الثوابت "العقيدة" بأصولها وفروعها، تلك العقيدة التي ميزت الإسلام عن غيره، وميزت المسلمين عن غيرهم، وأساس هذه العقيدة هو حب الله تعالى، وحب رسوله وإن حب الله ليس مجرد شعر أو نثر يخرج من اللسان، ولا هياماً بالوجدان، بل هي إيمان وسلوك، كما "أن الإيمان ليس كلمات تقال، ولا مشاعر تجيش، ولا شعائر تقام، ولكنه طاعة لله تعالى والرسول، وعمل بمنهج الله تعالى الذي يحمله الرسول". الرسول قدوتنا العقيدة والإيمان في الإسلام أكبر من أن تكون مجرد أفعال القلب، وأكبر من أن تكون مجرد الخضوع لله تبارك وتعالى، وإن كان الخضوع لله تعالى هو الأساس، بل هي أوسع من ذلك وأكثر رحابة، فالإسلام قدّم العقيدة على أنها علم وعمل، فهم وتطبيق، إيمان وسلوك، ولا قيمة لإيمان بلا عمل، أو إيمان يتناقض مع مبادئ التوحيد ومقاصد الاعتقاد، فالدين المعاملة، وهذا ما ينبّه إليه النبي (من خلال ربطه بين الإيمان (عقيدة) وبين الأمانة (سلوك) فيقول (((لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ)).. أحمد ولقد ظهر هذا الأمر جليّاً في شخصية الرسول التي جمعت بين الإيمان والعمل، والقرآن الكريم قدّم لنا الرسول كقدوة للبشر، يعلمنا كيف نجمع بين فهم العقيدة وتطبيقاتها في الواقع. نزلت سهلة فلا تعقدوها في بدايات الإسلام كانت تطرح العقيدة بأسلوب سهل بسيط، وكان العلماء يستفيدون من طريقة عرض القرآن الكريم لقضايا العقيدة، ومسائل الإيمان، تلك الطريقة التي جمعت بين العقل والقلب، بين الفكر والشعور، بين مخاطبة العقل والوجدان معاً. ثم تغيرت الأمور وأصبحت العقيدة معقدة، وتطرح بطريقة جامدة جافة، وصارت عبارة عن مجموعة من الأفكار والمعلومات، التي تجمعت نتيجة للرد على الزنادقة والفرق المخالفة، والدفاع عن العقيدة، وهذا أمر يُشكر عليه العلماء الذين نافحوا عن الإسلام وعقائده، لكن الحق يُقال إن الصفاء تكدّر، وأصبحت العقيدة السهلة الميسورة، صعبة وجافة، بسبب استمرار الطريقة التي انتهجها العلماء السابقون، وهي طريقة كانت لها ظروفها الآنية والمرحلية والتاريخية.