12 سبتمبر 2025

تسجيل

السعودية المارد الذي لا يشبع

17 ديسمبر 2017

ذكرنا في مقال الأسبوع الماضي أن عبدالرحمن بن فيصل حاول أن يسترد الرياض من ابن رشيد ولكن تمت هزيمته في معركة "حريملاء" وهرب باتجاه الإحساء. وأرسل المتصرف العثماني في الإحساء مندوباً إليه يعرض تنصيبه على إمارة الرياض وحمايته بشرط الاعتراف بسيادة العثمانيين وأن يدفع الخراج السنوي الذي سيقررونه. هدف العثمانيون من هذا العرض هو ضمان أن تبقى نجد مقسمة، وألا تصدر هجمات من آل سعود على الإحساء والقطيف المهمة لها، ولقطع الطريق على بريطانيا من تبني عبدالرحمن. لكن عبدالرحمن اعتذر لخوفه من ابن رشيد، ولأن قبائل الرياض قد خذلته في معركته الأخيرة ضد ابن رشيد. ولهذا رفضت الدولة العثمانية استقباله في الإحساء فتوجه إلى الكويت، ولكن محمد بن صباح اعتذر له عن السماح له بالإقامة في الكويت وذلك بإيعاز من العثمانيين. فتوجه للبادية وكتب كتاباً إلى قاسم بن محمد بن ثاني، حاكم قطر، يصف حاله وما يعاني منه. فما كان من ابن ثاني إلا أن رحب به في قطر تحت رعايته وحمايته. وبه رحل عبدالرحمن من البادية إلى قطر، ولحقت به عائلته، التي كانت في البحرين، وكان من ضمنهم ابنه عبدالعزيز صاحب 15 عاماً. ولم يتجرأ ابن رشيد على ملاحقة عبدالرحمن لأنه في حماية شيخ وقبائل قطر. وخافت الدولة العثمانية من وجود عبدالرحمن في قطر، فعندها راجعت موقفها، ووافقت على ذهابه للكويت، بل ووافقت على صرف راتب شهري، بقيمة ستين ليرة عثمانية، إن غادر قطر وذهب للكويت. وسبب مراجعة العثمانيين لموقفهم أنهم يريدون مراقبة تحركاته، والحيلولة من أن يعمل مع قبائل (مثل قبائل قطر) يصعب على المتصرف العثماني، في الإحساء والقطيف، أن يطاردها، أو يحد من نشاطها. واختلفت المصادر في مدة بقائه في قطر، فبعضها يقول شهرين، والبعض الآخر يذكر أنها كانت ثلاث سنوات. استفاد آل سعود من إقامتهم بالكويت، وبدأت تحركاتهم لاستعادة حكمهم الذي فقدوه. وكان المحرض الأكبر لخروج عبدالعزيز من الكويت للرياض هو أخته نورة بنت فيصل (كان عبدالعزيز يعتزي بها في كل مناسبة بقوله "وأنا أخو نورة"). وفي 1900، خرج عبدالعزيز إلى الرياض فدخلها بغتة، وحاصر حاميتها، ولكنه عندما سمع أن ابن صباح قد هزم في "الصريف" من ابن رشيد انسحب وعاد إلى الكويت. وفي 1901، خرج عبدالعزيز مرة أخرى إلى الرياض لتحقيق حلمه إلى إعادة ملك آل سعود. وفي الطريق إلى الرياض قام يغزو قرى نجد الموالية لابن رشيد وكان يقتل رجالها، ويسلب زادها (الأكل) وأموالها، وكان يتجنب أخذ الجمال والمواشي. واستمر عبدالعزيز بالتحرك ليلاً إلى الرياض. لقد استفاد عبدالعزيز من عنصر المباغتة، فدخل الرياض وقتل جميع من فيها من الحامية. وبحصول عبدالعزيز على الرياض، في عام 1902، بدأ عهد الدولة السعودية الثالثة. والظاهر أن عبدالعزيز أخذ عبرة من تجارب آل سعود في الدولة الثانية، فقام بتحييد منافسيه على الحكم حتى لا يصل الأمر إلى الاقتتال فيما بينهم. فبدأ بوالده بأن استدعاه من الكويت، وجمع رجال الدين وكبار القوم بعد صلاة الجمعة في باحة المسجد الكبير وطلب من والده أمام الجميع تولي الحكم. ولكن الوالد الذي فقد الرياض في أحد الأيام، واتهم أهلها بأنهم خذلوه، وسماعه المتكرر بما كان يردده رجال عبدالعزيز بأن "الملك لله ثم لعبدالعزيز"، فما كان من الأب إلا أن تنازل عن الحكم لصالح ابنه الكبير، وتمت بذلك البيعة لعبدالعزيز. ولكن عبدالعزيز لم يترك والده بدون رقابة فقام بتعيينه مستشاراً له. أما شقيقاه محمد وسعد وابن عمه عبدالله بن جلوي فأشغلهم بالحروب. واستغل عبدالعزيز انشغال ابن رشيد في مفاوضاته مع العثمانيين لاحتلال الكويت فبدأ بتحصين الرياض، وترميم أسوارها.   وبعد أربعة أشهر من سقوط الرياض عرف ابن رشيد أنه لا فائدة من مفاوضة الأتراك على الكويت فتوجه إلى حائل، وبدأ يعد العدة لتجهيز جيشه لغزو الرياض. وفي يناير 1903 أرسل عبدالعزيز إلى ابن رشيد إشاعة بأنه خرج من الرياض إثر خلاف مع والده، فصدق ابن رشيد ذلك فهجم على الرياض ولكنه وجدها محصنة، فتوجه إلى "الدلم" التي قيل إن عبدالعزيز فيها. وعندما علم عبدالعزيز بتوجه ابن رشيد له استنجد بأهل الحوطة وأهل الحلوة وأهل الفرعة، وهم من بني تميم، على ابن رشيد ففزعوا له وساندوه على عدوه. وقاد معركة "الدلم" مع عبدالعزيز ثلاثة فرسان هم أمراء الحلوة والحوطة والفرعة وبهم انتصر عبدالعزيز في معركة "الدلم". وبعد النصر ثبت عبدالعزيز سيادته على النواحي الجنوبية لنجد. وبعد أن فشل ابن رشيد في معركة "الدلم" توجه رأساً إلى الكويت لأنه يراها بأنها السبب في وجود آل سعود. فتحالف مع قبيلة مطير. استنجد ابن صباح بعبدالعزيز الذي لبى النداء إلا أن ابن رشيد، لما علم بتحرك عبدالعزيز رجع لبلاده. ولكن عبدالعزيز قرر مهاجمة مطير لتحالفهم مع ابن رشيد ووقعت معركة "جو لبن" التي انتصر فيها وقتل العديد من مطير وسلب منهم مغانم كثيرة. بعد ذلك، ولإثبات قوته أمام العثمانيين والإنجليز توجه لضم القصيم وتحقق له ذلك. ولكن، وبعد عدة شهور شن العثمانيون وابن رشيد معركة انهزم فيها عبدالعزيز، ولكن أهل القصيم، الذين لم يعلموا بهزيمة عبدالعزيز في معركة "البكيرية"، باغتوا رجال ابن رشيد وهم يجمعون الغنائم وقلبوا انتصاره إلى هزيمة. وبعد هذه المعركة مباشرة قام عبدالعزيز بالاتصال مع الميجر بيرسي كوكس وطلب منه قيام الإنجليز بمساعدته في صراعه ضد دولة الشرك وصنيعتهم (يقصد العثمانيين وابن رشيد). واستمرت المعارك بين عبدالعزيز وابن رشيد عدة سنوات انتهت مؤقتاً في 1907. وخلال فترة الهدوء النسبي بين عبدالعزيز وابن رشيد خرج على عبدالعزيز أبناء عمه سعود "العرايف" يريدون الحكم. فقاتلهم في مواقع عديدة، هرب بعضهم إلى ابن رشيد، أما البعض الآخر فقد هرب إلى قطر. وفي قطر انضم إليهم من أطلق سراحهم ابن ثاني من "الهزازنة". فخاف عبدالعزيز من تجمعهم في قطر، فأرسل رسالة تهديد ووعيد لابن ثاني ليسلمهم له، ولكن ابن ثاني رد برسالة تهديد ووعيد أقوى من رسالة عبدالعزيز. فما كان من عبدالعزيز إلا أن أرسل رسالة اعتذار لابن ثاني. عرف عبدالعزيز أن القضاء على العرايف وبخاصة من هم متواجدين في قطر يعد أمراً مستحيلاً، فلذلك، وحتى يأمن جانبهم، قام بتزويج أخواته للعرايف. وبهذا فقد حيد خصومه من آل سعود. ولخوف عبدالعزيز من توحد القبائل ضده فقد سعى لإضعاف الانتماء القبلي عن طريق إنشاء قرى ليستوطنوا عليها (أول قرية أنشئت في 1911) ولضمان سيطرة عبدالعزيز على سكان هذه القرى فقد استحدث فيها وظيفة "المطوع" لمراقبة تحركاتهم، وحثهم على طاعة ولي الأمر، وتطبيق تعاليم دعوة ابن عبدالوهاب (تطورت هذه الوظيفة، في 1940، لتصبح هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). وفي الختام نقول إن الماضي دروس وعبر، ولهذا استغل عبدالعزيز دروسا ممن سبقه، وحاول تحييد خصومه بطريقة ذكية. وسوف نرى في المقال القادم كيف غدر بمن آواه عندما كان مشرداً مع أسرته في البادية. والله من وراء القصد ،، [email protected]