19 سبتمبر 2025

تسجيل

فنجان قهوة في باريس

17 نوفمبر 2013

في مقهى "لو دوفيل" بباريس جلس ذلك الرجل الذي بانت على وجهه تجاعيد السنين، وحيداً على تلك الطاولة وسط أجواء باريس الساحرة، وذرات المطر الصغيرة تتناثر على وجهه بعد أن تراقصت بها نسمات الهواء الباريسية، فأصوات مرتادي هذا المقهى بدت تُذكره بأصوات من كانوا في يوم من الأيام حوله أصوات المارة خطوات أرجلهم على أرصفة شارع الشانزليزيه تبعث في نفسه شعورا بالأنين.. ظل وحيداً على تلك الطاولة التي طالما دعا إليها الكثير من أصدقائه، فيتبادلون الحديث معه والمديح الذي قد أشبع مسامعه، ولكنه لم يعلم بأن ذلك المديح الموجه له من قبل البعض هو مجرد حبر ينتظر نثره في عجز الأوراق التي يحتاجون إلى التوقيع عليها.... لم يعلم بأن ذلك المديح والتمجيد ليس إلا مجاملة لا أكثر! على تلك الطاولة قهوة فرنسية بنكهة البندق، ورائحتها الزكية قد حركت به مشاعر الحنين إلى ذلك الكرسي الذي جلس عليه في يوم من الأيام ولسنوات طوال، وتمنى في قرارة نفسه أن يعود به الزمن إلى تلك الأيام لكي يميز بين الخبيث والطيب، ويصحح أخطاء قد ارتكبها نتيجة نفاق وكذب من كانوا حاشيته، فلم يتوقع أنهم كانوا مجرد "زبانية"... ظل ذلك الرجل يتأمل فنجان القهوة فيرى فيه انعكاس تلك الوجوه الغابرة التي مرت به، فمستشاره الذي بالكاد يسأل عنه وعن حياته بعدما تزحزح عن كرسيه العاجي، اكتشف بأنه مخادع ولا يكترث إلا لمصلحته الشخصية ومصالح أهله وأحبابه وأصدقائه. وتذكر ذلك الوجه الذي هو أشبه بمصاص الدماء ولكنه يتخفى تحت ستار العاطفة، مدعياً بأنه الناصح الأمين مخفياً دسائس قلبه من الحقد والنفاق، فيتعمد إيصال معلومات مغلوطة عن الآخرين أمام سعادته مبيناً له بأنه حريص على المصلحة العامة ولا يرتضي الظلم! وهو في قرارة نفسه يعلم الحقيقة ولكنه يخفيها فقط لكي يبين له بأنه أفضل من الجميع.... بينما هو يتأمل فنجان القهوة الذي بين يديه فتحت له ملفات قديمة من ذكريات الكرسي، كم شخصا قد ظلمه؟ وكم من مدير منحه المنصب وهو لا يستحق فقط لأنه "ولد فلان"!! تساءل لماذا فضّل أحدهم على الآخر وهو للأسف لا يستحق؟! " زجرت أحدهم! أبكيت آخرين! فماذا استفدت؟ ".... أخذ يتساءل.... تذكر حاشيته المنافقة وكيف كان يفضّلهم.... ومن ثم تذكر من أرادوا الإصلاح دون مقابل موقنين بأن المصلحة العامة فوق كل اعتبار.. تذكر كيف كان يتجاهلهم، وقد عرف في هذه اللحظة بأنهم على حق والآخرون مزيفون... هنا لا ينفع الندم... ولن يعود به الزمن إلى الوراء، وكل ما حدث نتيجة ثقته بأناس ليسوا بأهل للثقة.... بل كانوا شياطين متخفين تحت ثوب الإنسانية.. مجرد ملفات قديمة لأحد المسؤولين السابقين فُتحت وسط أجواء باريس الممطرة، ولا زال يتأمل الفنجان إلى أن بردت القهوة كما بردت علاقاته، ترك الفنجان جانباً وأشعل سيجارة.. ظل يراقب الدخان وهو يخرج من فمه وأنفه، فتلاشى الدخان كما تلاشى منصبه..... نقطة فاصلة: ياللي تكرهني يا عسى عمرك طويل تاكل وتشبع من وجودي جمر وقهر