31 أكتوبر 2025
تسجيلتدور أحداث هذه القصة الخيالية في مكان ما في منطقتنا العربية، عجوز ثمانيني يجلس تحت ظل سدرة وحوله بعض الخراف التي ترعى في أطراف إحدى الرياض القليلة التي تكافح للبقاء على قيد الحياة في وجه التدهور البيئي الذي أصاب الأرض من آثار التغير المناخي بسبب التلوث الصناعي والحروب التي أطاحت بالحضارة البشرية، فالأمطار قليلة جدا ولكن الحياة الفطرية ما زالت تنتعش وتتجاوب مع قطرات الندى أو زخات المطر القليلة. ومن بعيد يقترب رجل وهو يمتطي "ذلولاً" (ما يُركب من الإبل ويكون سهل الانقياد) ويبدو عليه علامات السفر الطويل. توقف صاحب الذلول عند العجوز وقال له "السلام عليكم"، فرد العجوز السلام وقال مرحبا "يا مرحبا مسهلا اقرب يا السنافي"، فترجل الرجل عن ذلوله وجلس بقرب العجوز الذي قدم له بعض التمر وقليلا من الحليب. بعد أن أكل الرجل قال العجوز "علوم السنافي من وين جاي ولا وين رايح"، قال الرجل "والله مابه علوم، توني جاي من البلاد (أي قدمت من المدينة) ادور لي شغل ولا به الا الضعوي والذيب اللي يعوي (إشارة لعدم توفيقه)، وكلن يبكي ويشتكي"، فقال العجوز وهو يتؤه "ايه البلاد ما عاد به بلاد، من جاتنا ذا البلاوي الله يكفينا شرها، ولاعاد به حد صوب حد، هذا انا لحالي في ذا البر مع ذا الحلال ولولا رحمة الله كان مت من الجوع، لكن ربك رحيم بعباده أتقوت (أي اقتات) من حليب ذا الشوهات (أي الشياه) وارعى مثل الدبش (أي المواشي أو الأغنام) اكل اللي القاه يما حوى ولا بصيلمو (اعشاب برية) واذا انا حظيظ (أي محظوظ) لقيت لي نبق ولا مصع (ثمار شجر بري)، وكل فترة نزلت البلاد وبعت حليب ولا دهن وشريت تميرات ولا طحين والرزق على الله، وما عاد في العمر كثر ما فات"، تنهد الرجل وقال "الله المستعان يا يبه والله الحال واحد، يقول لي جدي الله يرحمه إن شيبانه يعلمونه أنه مر على القبلين (أي الأولين) وقت كان عندهم خير ونعمة، كانوا يعيشون في صحة وأمن والزاد متوفر، ويقولون إنهم من البطره كانوا يتخننون (أي يستخدمون العطور) لا ويتفننون في خلطها بعد، ومن كثر بذخهم وتبذيرهم قاموا يبيعون ويشترون من ذا العطور ويسمونها أسماء غريبة، ريحة أهل الجنوب وريحة أهل الشمال وريحة وجه العنز وريحة برطم الضب وخرابيطن ما أنزل الله بها من سلطان"، قال العجوز والحزن والحسرة تخنق صوته الضعيف "والله يا ولدي النعمة زواله للي ما يحافظ عليها، وانا وانت يا حينا (صيغة تفضيل) حالنا ابرك من غيرنا، انا عندي كم ذا الرويس من الغنم وانت شباب وعندك ذلولك والله لو تحمل عليه للناس وتكاريهم (أي تؤجره) كان ارزقك ربي من عنده، لكن غيرنا ما عندهم إلا الفلس (أي الفقر), والله اني اخبر جماعة يتشفقون على كسرة الخبز وما يلقونها". صمت العجوز للحظات ثم واصل حديثه قائلا "يا ولدي الدنيا مثل السراب يلهث الضامي (أي شديد العطش) ورى ماها وفي الآخر ماهوب بلاقي شي، ولو الاولين حمدوا وشكروا النعمة اللي عطاهم إياها الله كان حالنا ماهوب مثل ماتشوف". عزيزي القارئ، قال تعالى في سورة الأعراف الآية 31 ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، قال العلامة المفسر محمد الطَّاهر ابن عاشور في كتابة التحرير والتنوير: (فبيَّن أنَّ الإسراف من الأعمال التي لا يحبُّها، فهو من الأخلاق التي يلزم الانتهاء عنها، ونفي المحبة مختلف المراتب، فيعلم أنَّ نفي المحبة يشتدُّ بمقدار قوة الإسراف، وهذا حكم مجمل، وهو ظاهر في التحريم)، ثم قال في موضع آخر من الكتاب (فوجه عدم محبة الله إياهم أنَّ الإفراط في تناول اللذات والطيبات، والإكثار من بذل المال في تحصيلها، يفضي غالبًا إلى استنزاف الأموال، والشَّره إلى الاستكثار منها، فإذا ضاقت على المسرف أمواله؛ تطلَّب تحصيل المال من وجوه فاسدة، ليخمد بذلك نهمته إلى اللذات، فيكون ذلك دأبه، فربما ضاق عليه ماله، فشقَّ عليه الإقلاع عن معتاده، فعاش في كرب وضيق، وربما تَطَلَّب المال من وجوه غير مشروعة، فوقع فيما يؤاخذ عليه في الدنيا أو في الآخرة، ثم إنَّ ذلك قد يعقب عياله خصاصة، وضنك معيشة، وينشأ عن ذلك ملام، وتوبيخ، وخصومات تفضي إلى ما لا يحمد في اختلال نظام العائلة). وختاما أقول: لا تعليق "كل يفهم على هواه" @drAliAlnaimi