17 سبتمبر 2025

تسجيل

المثقف وإشكالية الإثبات (2)

17 أكتوبر 2016

ونتيجة لهذا الإقصاء، تبرز بعض النماذج الهشة داخل الإطار، ويتم الترويج لأنصاف المثقفين، الذين تصنعهم الظروف بقرار، والذين يشوهون المشهد أو الإطار الثقافي، الذي تم بناؤه منذ مئات السنين. وبذلك ينكفئ المثقفون الجادون في بيوتهم، بل وقد "يكفرون" بالتفكير أو بالكتابة في ظل حالة "التوجس" التي تمارسُ ضدهم. الموضوع الآخر لتردي وتراجع دور الثقافة في المجتمع هو وسائل الإعلام! فنحن نلاحظ غلبة الجانب الدعائي في أغلب وسائط الإعلام العربي. وغياب البرامج الجادة، كما أن صفحات الثقافة في أغلب الصحف العربية تكون (خبرية)، وليست تحليلية، وهنا يتضح لنا المأزق الذي تعيشه هذه الصحف، حيث لا يُشرف عليها مثقفون مؤهلون يتجاوزون حدود الخبر الثقافي المحدود والدعائي إلى التحليل العميق والرؤى النقدية العاقلة، أو المتعاطون الحقيقيون للثقافة، والتي تساهم في خلق حوار بين المثقف ونظرائه.وعندما نأتي إلى برامج الإذاعة والتلفزيون نلاحظ غلبة البرامج الغنائية والحوارات الفنية غير الجادة، مقارنة بإعلام السبعينيات والثمانينيات. هذا الاتجاه "يُقولب" المستمعين والمشاهدين، ويدعم توجهَهم الاستهلاكي والتسطيحي لنظرتهم للحياة من حولهم. بل إن بعض المحطات الإذاعية والتلفزيونية يقدِّم للجمهور وجوهًا لم تكتمل خبراتها ولم يشتد عُودها، يُقدمون معلومات خاطئة خلال تلك الحوارات "السَّمجة" حول التراث أو تكرار كلمة تراثية طيلة الحلقة التي تمتد لساعتين، حيث لا يستفيد المتلقي أي معلومات ضمن الوقت "المهدور" في حوار مذيعة ومذيع لم تتوفر لهما الخبرة الكافية للجلوس أمام الميكروفون أو أمام الكاميرا. علمًا بأن البث أصبح فضائيًا الآن، وأن أي محطة يمكن أن يشاهدها ملايين الناس، ولا بد وأن يكون مذيعو ومقدمو تلك المحطات مُقنعين للمشاهدين في بلدان أخرى لا تزال متمسكة بأصول الثقافة واللغة والمعرفة.وإذا ما أتينا للنشر الثقافي، وجدنا أن المبدع يُنازعُ بين مطرقة الناشر وسندان الرقابة. وهذه تشكل حالة طاردة للإبداع! فالناشر لا يتواجد بشكل جديٍّ في العديد من الدول العربية! وحتى في عواصم الثقافة -ومن واقع الخبرة- نجد أن الناشر يبحث عن الربح، ولا يلتفت إلى المُنتَج، بل وُجدت حالات معينة لناشرين لإنتاج الشباب، يُعاب عليها عدم تدقيق المُنتج لا لغويًا ولا موضوعيًا! كما أن بعض الإنتاج يُنشر باللهجة العامية، وهذا يشكل تشويهًا خطيرًا للغة العربية، تحاربه ذات الدول. كما ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في الترويج لهذه الأعمال المتواضعة والتي يضعها شباب لم يُكملوا عامَهم العشرين! ولعل القارئ يتعجب من رؤية طوابيرَ طويلة في معارض الكتاب للحصول على توقيع من شاب لم يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر وهو يوقع كتابه، الذي صاغه بلهجة محلية، وموضوع يدغدغ مشاعر المراهقات، بينما لا يلتفت هذا الجيل إلى إبداعات ذوي الخبرة، سواء في الرواية أم القصة القصيرة. وهذه أزمة ظهرت خلال الأعوام الخمسة الماضية، ولا تزال تسيطر على معظم معارض الكتب العربية. ولقد قرأتُ أكثر من عشرين كتابًا من إنتاج الشباب، قِيل عن بعضه إنه "رواية"، فوجدت أن هنالك كتبًا تُخرجها المطابع دون تدقيق لغوي، وأخرى لا تنطبق عليها الخصائص السردية للرواية، وأخرى عبارة عن سجع مَمجوج، وأخرى لا يُفرق الكاتب -لأنه لا يعرف- بين همزة الوصل وهمزة القطع، بل ويدمج المثنى بالجمع، دونما مراعاة لجمال اللغة العربية ودورها كحاضنة للثقافة العربية. بل ووجَدتُ اتجاهات غريبة نحو نشر المذكرات ووسمها بأنها "روايات"! بل إن بعضهم يُصدر كتبًا كلها وعظ وإرشاد مباشر، دونما مساحات بلاغية أو بديعية، ويوسمها بأنها "رواية"، دون أن تكون فيها حبكة أو عقدة أو حتى تطوُّر للشخصيات. وللأسف، لا توجد جهة في العالم العربي توقف هذا التشويه الواضح في مسيرة الأدب العربي.أما بالنسبة للرقابة، فإنها تشكل عائقًا أمام المبدع الحقيقي في حالات عديدة! فبإمكان الرقيب منع رواية من 500 صفحة بسبب وجود مشهد عاطفي استوجبه الموقفُ الدرامي! أو بسبب جُمله تاريخية قد تُعكّر مزاجَ أحدهم! وارتكازًا على ذلك يُحاذر المبدع التصريح، وقد يلجأ إلى "المداهنة"، وبذلك يخون ضميره وتتشوه رسالته. ناهيك عن أن بعض الدول الغنية قد قللَت من دعمها للكتاب، في الوقت الذي تخصص فيه ميزانيات "رحبة " للكتب الدعائية والتي توضع كواجهات إعلامية وليس للتداول الشعبي، كما أن تلك الكتب لا تحمل الهَمّ الشعبي أو نبض الشارع الذي يُعّول عليه في كتابة تاريخ الأمة.