17 سبتمبر 2025
تسجيلتتكالب الدول على تركيا بغية ثنيها عن تحقيق مشروع "الوطن الأزرق"، وما يتبعه من نهضة واعادة تموضع لموقع تركيا على الخريطة الدولية، في الوقت الذي تسعى فيه دول القارة العجوز لإعادة الكولونولية البائدة في صورتها المحدثة، عبر احتضان ماكرون لشقراوات وعجائز بيروت، في تظاهر بالسأم من وضع لبنان الممزق، والذي وضعت فرنسا قواعده عند رحيلها عنه في عام 1943، وأسست له بمنهجية ليبقى ممزقا متشرذما، وسط تظاهر واشنطن بالحياد والتهدئة ولسان حالها يقول، "اطرحوا تركيا أرضا يخلُ لكم شرق المتوسط". ما يدور الآن في شرق البحر الأبيض المتوسط واماكن اخرى في شرقنا الاوسط يكشف مدى خوف وهلع القوى العظمى، التي بدأت تستشعر حقاً قوة الذئب التركي الصاعد، والذي بدأ يصول ويجول في بحر ايجة وما جاوره، في محاولة لفرض سيطرته عبر سياسة الامر الواقع، خصوصا بعد ان ادركت تركيا واصبحت مقتنعة تماما بأن لغة القوة هي اللغة التي يحترمها الجميع، فأثارت الرعب في قلوب من كان يلوح بمناورة عسكرية في المناطق المتنازع عليها، عبر اظهار عدم خوفها وخشيتها من المواجهة واستعدادها للمضي قدماً في حال تطلب الامر ذلك، مع سعيها للحوار والتوصل لأرضية مشتركة تنصف تركيا كدولة ذات سيادة، لا دولة تابعة تستجدي اوروبا لترضى عنها وتعيش على فتات موائدها. تعاني تركيا من عدة مصاعب، وهو ما يلازم الشجرة المثمرة التي يتربص بها الجميع، فبعد ان سأمت أنقرة من انتظار الموافقة للانضمام لنادي العجائز العنصري الذي يضم بين أعضائه دول اوروبا الشرقية التي لا تقارن بتركيا نمواً وازدهاراً، اصبحت اليوم اكثر ايمانا بنفسها وبقدرتها على النهوض والنمو دون مساندة من الجار الاوروبي، الذي يبدو انه ما زال يحمل بين جنباته آلام ضياع بيزنطة من بين يديه، خصوصا مع سعي فرنسا "منارة العلمانية في العالم" الى تحجيم الدور التركي والتقليل من شأنه، بل وافشال كافة مساعيه، في مقابل دعم كامل وغير مشروط لليونان!. والاسباب اصبحت مكشوفة للجميع، فهل من سبب وجيه غير "الإسلام"؟، وسواءً اتفقنا ام اختلفنا مع النموذج الاسلامي التركي! الا ان التهديد الوجودي المشترك الذي يواجهنا يتطلب ارتقاءنا فوق اي خلاف. لقد تبين لتركيا جليا ان اوروبا العلمانية لن ترضى عنها حتى مع اتباع ملتهم، فتخلت عن حلم الانضمام للاتحاد الاوروبي، والذي هربت منه بريطانيا لشعورها بعدم الانصاف من تحمل أعباء "دول العالة" على الاتحاد، ولن تكون بريطانيا الدولة الاولى التي تفر بجلدها بحسب الرئيس بوتين الذي توقع انسحاب بعض دول اوروبا الشرقية من الاتحاد بحلول 2028، عندما تتوقف عن تلقي التبرعات والمنح وتبدأ في سدادها. تركيا اليوم ليست تركيا الأمس، فقد اثبتت للجميع حتى الآن على الاقل انها قوة لا يستهان بها، رغم قلة الحلفاء وخيانة الاقرباء، ورغم ذلك فإنها تحمل مشروعا تنمويا طموحا سواء على صعيد الداخل او الخارج، وقد حقق حزب العدالة والتنمية قفزات هائلة لتركيا لا يستطيع ان ينكرها احد اتفق ام اختلف معه، وبرغم لجوء المناوئين لتركيا الى التشكيك بأهداف أردوغان وحزبه ووصفهم بالعثمانيين الجدد، الا انه وبالرغم من سذاجة التهمة الا ان دعم الموقف التركي خير لنا من المعسكر الغربي البراغماتي وتجربة السنوات الطوال كانت خير برهان. لقد حقق أردوغان وحزبه نهضة تركية لا تخطئها العين، عبر برامج وخطط تنموية وتخطيط استراتيجي محكم، واعادة هيكلة النظام المالي، وقد تصدر الاقتصاد التركي مؤشرات النمو الاقتصادي العالمي في الربع الاول من 2020 بنسبة نمو بلغت 4.5%، بجانب تحقيق الكثير من الانجازات والارقام منذ الازمة التي مرت بها تركيا في 2001، ما ضاعف متوسط دخل الفرد، وحقق النمو والازدهار وجعل تركيا تتحول من خدمة الدين الى خدمة المواطن بحسب البنك الدولي. الى جانب ذلك عزز الحزب من مكانة الطبقة الوسطى، كما اعاد أردوغان وحزبه الاعتبار للمحافظين الأتراك الذي عانوا لسنوات من استعلاء البرجوازية العلمانية، ولطالما شعروا بالتهميش وانهم ليسوا سوى "اتراك سود". يضاف الى ما سبق أن الشخصية التركية تتمتع بخصوصية واستقلالية واعتزاز بالنفس والهوية. وقد تجسد ذلك في رد زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال قليجدار أوغلو على مرشح الرئاسة الأمريكية جو بايدن، قائلا ان حزبه صاحب موروث يكافح من أجل استقلال تركيا، رافضا تدخل "القوى الامبريالية" بحسب وصفه، وذلك في رده على تصريحات بايدن ضد أردوغان والذي دعا فيها الى التعاون مع المعارضة التركية لإسقاطه!. ما سبق يعطي دلالة واضحة على ان المضمار الذي تسير فيه تركيا ضاعف من مخاوف الغرب والذي لم يستطع حتى الآن تحجيم دور تركيا في المنطقة وافساد تحالفاتها مع دول الجوار. وما تخشاه واشنطن خصوصا هو دخول الدب الروسي على خط المواجهة، عبر زيادة التعاون المشترك مع تركيا بالتزامن مع اكتشافات الغاز التركي في البحر الاسود. يقول فريد زكريا في كتابه الصادر عام 2008 "عالم ما بعد أمريكا" والذي تأبطه الرئيس السابق أوباما وهو يترجل من طائرته كأنه يستشرف مستقبله من خلاله "ما زلنا نفكر في عالم ينبغي فيه على أي قوة صاعدة أن تختار بين خيارين قاسيين: إما الاندماج في النظام الغربي أو رفضه، فتصبح بذلك دولة مارقة تواجه عواقب النبذ. ولكن، يبدو أن القوى الناشئة تسلك طريقا ثالثا: إنها تدخل النظام الغربي ولكن وفق شروطها الخاصة، مغيرة شكل النظام نفسه. ففي عالم يشعر فيه الجميع بالقوة والثقة بالنفس يمكن للدول أن تتجاهل المركز الغربي وتنشئ علاقات خاصة فيما بينها". واشار الكتاب الى انه "في عالم ما بعد أمريكا، قد لا يكون هناك مركز للاندماج فيه أساسا، وسوف يتحول العالم من النظام المركزي الذي يمر عبر الولايات المتحدة الى عالم ذي مسالك متنوعه". ان المشهد الآن يمثل فرصة سانحة للصين وايران وروسيا، لتغيير استراتيجياتهم وتثبيت مكانهم في المياه الدافئة وتشكيل تحالفات تعيد ترتيب موازين القوى وتقضي على احادية القطب نحو تعددية الاقطاب وتوازن القوى، وبدل ان تلتقي المصالح الصينية الروسية في سوريا بالرهان على الحصان الخاسر!، يجب ان يتغير ذلك وتعاد صياغة العلاقات ويكون الرهان عبر تعزيز المصالح المشتركة مع أنقرة، والامر سيان بالنسبة لإيران، فعوضاً عن استمرار طهران في مساعيها المبنية على اسس "مذهبية وتصدير الثورة"، يجب ان تتحول وتتجه نحو افق اوسع من تحقيق المصالح المشتركة ونبذ الخلافات الآنية وتشكيل تحالف يكبح جماح الغرب وتغولهم على العالم، والاهم من ذلك تعزيز مكانة الشعوب والحفاظ على مقدراتها وحماية مصالحها ووضعها على رأس الاولويات، وهو الرهان الذي اثبت وسيثبت انه الرهان الرابح.