29 أكتوبر 2025
تسجيلأسوأ ما في بعض الأنظمة العربية خاصة العسكرية المستجدة أنها تدفن رأسها في الرمال، وترمي فشلها ومشاكلها على فئة معينة من الشعب، فتارة تسميهم المعارضة وتارة قوى الشد العكسي وتارة المندسين وما إلى ذلك من المسميات الاتهامية الجاهزة، وكأن الحكومات أو القيادات تلك تطرح سياساتها واستراتيجياتها وخططها أو قراراتها للعامة أو تسمح بمناقشتها ضمن القنوات المتاحة لدى الرأي العام، وتنسى أنها هي التي تفكر ثم تقرر، ثم تحت ستار الصمت تعلن عن قرارات عملية دون حساب ردات الفعل أو تعثر تلك القرارات، لتوجه اللوم والاتهام بعد ذلك إلى تيارات سياسية أو شريحة من الشعب. في مصر اليوم يحدث أكبر من ذلك، فالاتهامات والسببية تجاوزت نطاق الشعب المصري وفئاته، وحدود مصر الجغرافية إلى جارتها غزة المحاصرة منذ زمن طويل بمختلف الأطواق الرقابية، ولعل الحقد على جماعة الإخوان المسلمين في مصر قد تحول لدى القادة الجدد في القاهرة إلى حقد ممتد على كل ما هو قريب يوما ما من تلك الجماعة، فتحركت ماكينة الإعلام المنافق والملتصق بجدران الحكم إلى اتهام الفلسطينيين عموما، وشيطنة حركة حماس خصوصا، وهاهي ترمي فشل إستراتيجيتها في سيناء على حماس. حماس كحركة سياسية وصلت إلى الحكم في ما كان يعتقد أنها دولة فلسطينية مستقلة القرار الداخلي على الأقل، لها ذراع عسكري، وهذا طبيعي في ظل قوة احتلال لا تحرّم حراما، ولا تحُل حلالا فيما يخص العربي الفلسطيني، وحركة حماس هي القوة الوحيدة التي ناضلت وحاربت الاحتلال الإسرائيلي و"جيشه الذي لا يقهر"، وهي التي تكبدت خلال السنوات الماضية أطنانا من الأسلحة المحرّمة دوليا ألقتها مقاتلات العدو فوق رؤوس المدنيين في غزة، وحوصروا سنين طويلة ولا يزالون، فيما غيرهم من العرب يلقون أطنانا من أوراق النقد والغذاء والدواء في النفايات الدنيوية، لذلك من حق حماس أن تكون لها قوة تحميها وتحمي مواطنيها. آخر ما تحتاجه حركة حماس هو توريطها بقضايا عسكرية وحربية مع رئتها الجنوبية مصر، وحتى زمن الرئيس المخلوع حسني مبارك لم يصل الأمر إلى ما وصل إليه اليوم فالشرايين السرية التي يعيش منها أبناء غزة تم إغلاقها أو تدميرها مؤخرا، وهي المعابر البرية والأنفاق الأرضية، وامتدت لائحة الاتهام لتصل إلى سيناء حيث القلاقل والمواجهات العسكرية التي يعالجها العسكر المصري الجديد بهجمات قتالية يستخدم فيها طائرات الأباتشي والمدفعية والمدرعات، وفي الأمس أعلن الجيش المصري أنه ضبط أسلحة لحركة حماس في المناطق التي اقتحمها، بعد تمهيد أولي لربط الحركة بما يحدث في القاهرة والإسكندرية من مواجهات. المشكلة الكبرى ليست في ما يحدث في سيناء ابتداء من الوضع المعيشي للسكان وحتى نهاية الأمر بالمواجهة مع السلطات، بل المشكلة في الفشل الذريع لطبقة الحكم في القاهرة، التي لم تول مناطق سيناء أي اهتمام خلال السنين الماضية التي عادت بها إلى أحضان الدولة المصرية بعد كامب ديفيد، فالصحراء شاسعة والقبائل هناك مهمشة، وتركت خطوط التهريب للمواد الممنوعة مفتوحة ويسيطر عليها أفراد وعصابات قوية مرتبطة بأشخاص من ذوي السلطة السياسية والعسكرية السابقين في مصر، ليعتاش الطرفان على اقتصاد التهريب المشبوه، حتى الساحل السياحي الممتد عبر ألفي كيلومتر من شواطئ البحر الأحمر لم يستفد أبناء سيناء من المشاريع الضخمة عليه، والطرق المعيشية عندهم تختلف عن الطرق المعروفة في المدن والأرياف المصرية، لهذا لم يفكر أحد بمعالجة ذلك الخلل الكبير في الوضع التنموي والاجتماعي والأمني في شبه جزيرة سيناء. في المقابل يعتقد القادة الجدد أن المواجهات العسكرية هي الحل الجراحي، وهذا خطأ، وكان الأجدى أن يتعلموا من الدروس الأمريكية والدول المتحالفة في العراق وأفغانستان واليمن والصومال وحتى شمال إفريقيا، الحل العسكري ليس هو الحل الرئيس، وإلصاق التهم بحركات أو مجموعات جهادية أو إرهابية أو عصابات مسلحة لا يحل المشكلة بل يعقدها بعد أن دفن العسكر رؤوسهم في رمال سيناء، وعليهم أن يبحثوا في حلول أخرى للمشكلة دون معاقبة غزة وأهلها بذريعة ارتباط حماس بجماعة الإخوان المصرية. السؤال المحير هو لماذا يصمت كل هؤلاء البشر عن التدخل السافر والحربي لحزب الله الذي يخرج زعيمه بكل بجاحة ليعلن ارتباطه بالمرجعية الإيرانية واستعداده للقتال في سوريا بكل قواته، ولا يدعم النظام السوري فقط بل يدخل في معارك تصفية ضد المدنيين السنة، وهو من المفترض أن يكون حزبا لبنانيا ولا يتدخل في شؤون الجوار، ومع هذا يتبادل الأسلحة مع جيش نظامي ويتعاون مع دولة غير عربية، وفي المقابل حماس تنفي وبشدة أي صلة لها فيما يحدث في سيناء وجماعة الحكم في مصر لا يرون فيما يحدث في سوريا غضاضة، ويصرون على توريط الأخوة الفلسطينيين في صراعهم مع فئة من الشعب المصري لا تريد حكم العسكر القمعي. منظومة الحكم الجديد في مصر إن لم تبدأ في ترسيخ أسس جديدة لنظام حكم محترم يحترم الجميع هناك، وتولية المدن والأطراف البعيدة ومنها سيناء الاهتمام الكافي لوضع خطط التنمية والإصلاحات على أرض الواقع، ستستغرق عقودا طويلة في صراعات داخلية لن تخرج من دوامتها أبدا، سينخر السوس الشجرة المصرية العظيمة، وسيتحول النظام إلى نار تأكل نفسها بعد أن تنهي أكل خصومها المفترضين، ولن ينفعهم الندم حينئذ.