20 سبتمبر 2025

تسجيل

طبيب المهاجرين

17 أغسطس 2023

سيرة ذاتية تُعرّف بصاحبها.. لا من خلاله، بل من خلال الآخرين الذين كرّس مسيرة حياته في خدمتهم بما استطاع، وفوق ما استطاع في بعض الأحيان!.هنا يتحدّث (بيترو بارتولو).. طبيب من جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، الذي جعل منها نقطة تجمّع للاجئين عقدوا الأمل على حياة خلف البحر فركبوه، حتى لَفَظَهم على شاطئه ولم يبتلعهم غدراً كما غدرت بهم أوطانهم وابتزّهم المهربون.. فتوّلى مهمة استقبالهم منذ تأسيس عيادة الجزيرة عام 1991 كحالات طارئة ينبغي إسعافهم فور وصولهم، حتى استحق وبجدارة لقب (طبيب المهاجرين). لم يكن توفير طائرة إسعاف للجزيرة ابتداءً بالأمر الهيّن، فقد حارب خلال السنوات التي تولّى فيها منصب مستشار للصحة في بلاده، من أجل الحصول على ميزانية العيادة الضخمة، ما يسّر عملية تدشين الخدمة بعد ذلك وخفف وطأة العزلة على الجزيرة بساكنيها. يحصد د. بارتولو الأوسمة والجوائز العالمية نظير أعماله الطبية والإنسانية تجاه اللاجئين، ويُرّشح فيلم (حريق في البحر) الذي خصّ الجزيرة وأعماله فيها بجائزة الأوسكار عن أحسن فيلم وثائقي لعام 2017. وعن مراجعة سيرة (دموع الملح)، فتعتمد على الطبعة الأولى الصادرة عام 2020 عن (منشورات تكوين للنشر والتوزيع)، والتي عني بترجمتها المترجم والروائي المصري (محمد أ. جمال)، وهي تعرض متفرقات عن صاحبها مهنياً وشخصياً، معززة ببعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر): ليس صحيحاً أن اعتياد تشريح الجثث يولّد شعوراً اعتيادياً نحوها، فالمهمة شاقة والألم المصاحب يستعصي على قدرة التحمّل في كثير من الأحيان! فيوجّه د. بارتولو في موضوع (أمور لا تعتاد عليها) نوعاً من التوبيخ إلى من يظن بـ (روتينية) الفعل لا سيما من قِبل زملائه الأطباء، قائلاً: «أنت لا تعتاد أبداً على رؤية أطفال موتى أو نساء لقين حتفهنّ أثناء الولادة على مركب يغرق، أطفالهن الصغار متدلين منهنّ بالحبال السرّية. لا تعتاد أبداً على مهانة قصّ إصبع أو أذن جثة لتحليل شفرتها الجينية، حتى يصير للضحية اسم وهوية وليس مجرد رقم». وفي موضوع (خيار لا رجعة فيه) وبينما تقلّ طائرة مروحية لاجئين بدت بهم العيادة «كمستشفى ميداني ساعة حرب»، يعاين د. بارتولو رجل سوري ممدد «يتدلى من وريده محقن» وتعكس عيناه نظرة خواء ما لها من قرار، وإلى جانبه زوجته تشاطره النظرة وبحضنها طفلهما الرضيع ذي التسعة أشهر! لم يكن سر تلك النظرة سوى عذاب الضمير الذي نشب في صدره بعد أن قرر -وهم يصارعون الموج إثر تحطّم القارب- إفلات يد ابنه ذي الثلاثة أعوام والذي كان متمسّكاً به، في تضحية من أجل إنقاذ طفله الرضيع المتعلق بصدره وزوجته معه، حيث الغرق لأربعتهم سيكون مصيرهم لا محالة لو استمر في خوض البحر ومعاندة أمواجه في محاولة لإنقاذ الجميع.. «فتح يده اليمنى وأطلق سراح ابنه وشاهده يختفي أمام عينيه تحت الأمواج»، وما هي إلا دقائق حتى وصلت مروحيّات الإنقاذ.. فلو تمسّك به للحظات لكان لا يزال بينهم! ثم يستمر د. بارتولو يروي قصة الجثث السبع التي حملها قارب لميناء الجزيرة مرة، بمعيّة جثث أطفال أربع بدوا وكأنهم نائمون.. لم تكن الجثث سوى طبيب سوري وزوجته وأطفاله وستة من زملائه العاملين في عيادته الخاصة قبل فرارهم من وطنهم، وقد انقلب بهم القارب بعد إشرافهم على ولادة امرأة فاجأها المخاض في عرض البحر، حين تدافع الراكبون نحو المولود لرؤيته، ما أفقد القارب توازنه وغرق بمن عليه!.ختاماً.. ما هي (دموع الملح) التي خصّها الطبيب لتصف سيرته كاملة والتي ما ارتبطت سوى بدموع الآخرين؟ كانت تلك دموع والده الذي غلبه السرطان آخر عمره، والذي ربّى وأمه سبعة أطفال بمدخولهما المتواضع من مهنة الصيد، وأوصلا أحدهم إلى الجامعة حتى تخرّج طبيباً وحققا به رهانهما الوحيد! يتذكره ابنه عندما كان يهرع لمساعدته كلما عاد بقاربه إلى الميناء محمّلاً بالوفير من الأسماك، فيقول عنه في موضوع (أبناء البحر ذاته): «عندما يعود للميناء بغنيمته، يكون وجهه عادة أبيض يغطيه الملح، تتناثر مياه البحر على الوجه الذي تحرقه الشمس وتترك خلفها قناعاً من الملح.. قناعاً ينبئ ولا يخبئ، ‎قناعاً يُظهر أصالة الوجود ولا يترك مجالاً للتزييف». وهو الآن يرى نفس القناع الملحيّ يغطي وجوه من رموا أنفسهم في دوامة البحر، جبراً لا اختياراً.. فيقول: ‎»أرى القناع نفسه على وجوه المهاجرين اليائسين، الذين قضوا أياماً طوالاً في البحر، تتقاذفهم الأمواج.. كلما رأيتهم بهذا الحال، أفكر في أبي.. كلهم أبناء البحر ذاته».. كانوا كأبيه، يصلون متعبين لكن غير مهزومين، فقد قرروا العيش مهما كان.. فيقول: «‎كان أبي يعود للبيت كل مرة متعباً، لكنه لم يعد مهزوماً قط.. الآلام التي يشعر بها تزداد سوءاً، والدموع التي تجد لها مساراً أحياناً على وجنتيه، تتحلّل ويبقى ملحها على بشرته.. كانت تلك هي دموع ‎الملح».