10 سبتمبر 2025
تسجيلكثر الحديث بين الخاصة في المجتمع ( تكنوقراط، رجال أعمال، أصحاب نوايا !) عن التعليم، والذي يجب أن يكون عندهم مسخراً لخدمة " السوق " وتعود فكرة " حاجة السوق " إلى مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، وذلك مع توجه السياسات العامة الاقتصادية الليبرالية نحو تدخل الإدارة الحكومية في الاقتصاد بعد الحرب العالمية الثانية، لإصلاح ما أفسدته الحرب، كما اسهم تبني دول العالم حديثة الاستقلال من ربقة الاستعمار، سياسات عامة اقتصادية اجتماعية للقيام بالتنمية في ظهور أول نماذج علم الإدارة العامة، وهو نموذج إدارة التنمية. ومن هنا يمكن القول إن النشأة الحقيقية لعلم الإدارة العامة تأثرت بشكل رئيسي بتوجهات السياسات الاقتصادية نحو توسيع دور الحكومة على حساب القطاع الخاص. (2) جدير بالذكر أن أول من طرح فكرة تأسيس حقل معرفي مستقل للإدارة العامة هو الرئيس الأمريكي ودرو ويلسون عام 1887م واقترح أربع أفكار هي: "الفصل بين السياسة والإدارة العامة، والنظر إلى الحكومة من منظور تجاري، والتحليل المقارن بين المنظمات السياسية والخاصة والبرامج السياسية وتحقيق الإدارة الفعالة من خلال تدريب الموظفين العموميين وتقويم جودة التوجه الاقتصادي للإدارة العامة الذي يفصلها عن العلوم السياسية ليدخلها ويلسون في أداء أعمالهم ". وانطلاقا من هذا أصبح " علم الإدارة العامة " منتشرا في معظم الجامعات الأمريكية ومن هنا راحت بعض الشركات الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية تبذل اهتماما شديدا لمعرفة حاجة السوق العالمي من المواد والسلع المطلوب إنتاجها ومن ثم تسويق ذلك المنتج إلى الأسواق العالمية. تنفيذاً لذلك المشروع انتدبت تلك الشركات كوكبة من خريجي مدارس الإدارة العامة لزيارة بعض دول العالم الثالث، وكان من بينها مصر وتركيا على سبيل المثال أولا لمعرفة حاجة أسواق تلك الدول وشبيهاتها من السلع والخدمات، ولتحقيق ذلك الهدف تركزت بحوث ذلك الفريق على معرفة النظم والهياكل الإدارية لهذه الدولة أو تلك ومعرفة القوانين واللوائح المنظمة للأعمال التجارية والإدارية ودور البيروقراطية اما في نجاح أو اخفاق التنظيم الإداري وسهولة المعاملات التجارية ومعرفة القوانين واللوائح المنظمة للتصدير والاستيراد. (3) إن مطلب التكنوقراط من مخرجات التعليم ان يكون لديهم جهاز إداري قادر على إدارة الموارد البشرية وإدارة المؤسسات العامة على سبيل المثال لا الحصر. أما مطلب رجال الأعمال فهم في حاجة إلى مخرجات تعلم تكون على معرفة بقواعد التسويق والمحاسبة ومحاسبة التكاليف ومحاسبة الشركات وما في حكم ذلك، وهناك نوع آخر وهم الأخطر في هذه المنظومة " أصحاب النوايا !" إنهم ينادون بالحد من دراسة العلوم الإنسانية ( التاريخ الآداب الفلسفة الجغرافيا وعلم الاجتماع والعلوم السياسية، والدين إلخ ) تحت ذريعة أن السوق ليس في حاجة إلى تلك المخرجات / التخصصات. هذه الفئة فاتها أن الجامعة بيت خبرة في كل حقول المعرفة فلا غنى لرجال الأعمال ورجال الحكم عن موظف له معرفة بالتاريخ والجغرافيا والسياسة وعلم النفس والقانون والإدارة العامة والاقتصاد والدين وغير ذلك. انها علوم متداخلة بعضها يخدم بعضا، انها مساقات تقدم للطالب على مدار أعوام أربعة يخرج الطالب وهو مؤهل ليحلق في آفاق الحياة تصقله فيما بعد التجارب والتدريب وغير ذلك، ولا يجوز التقليل من شأن العلوم الإنسانية. إن هذه الفئة " أصحاب المآرب " لا يريدون للأجيال العربية أن تعرف ماضيها المشرف ودور هذه الأمة في بناء الحضارة الإنسانية بهدف بناء المستقبل للأمة العربية، انهم لا يريدون الامعان في دراسة الدين الإسلامي الحق، لانه الباعث لنهوض الأمة على أسس حضارية تحقق العدالة الاجتماعية والأمن والاستقرار للبشرية عامة. إن خريجي تخصصات العلوم الإنسانية في اغلب الاحيان هم قادة ومسؤولون ومشرعون وقضاة ومؤرخون ومعلمون وإعلاميون وجنود وضباط وغير ذلك من المهن التي تولد من رحم العلوم الإنسانية. في جامعات الدول المتقدمة تعطى العلوم الإنسانية أهمية كبيرة لا تقل أهميتها عن التخصصات العلمية والعلوم التطبيقية بل تزيد أهميتها وتفضيلها في معظم الاحيان على العلوم التطبيقية، لكونهم يدركون مدى أهمية وتأثير هذه التخصصات على تطور ونمو وتغير المجتمعات والدول. (4) في حقبة التعليم عن بُعد الذي فرضت قواعدة " جائحة كورونا " صدر تعميم إدارى عام في الجامعة نصه: " بناء على قرار الجامعة تطبيق نظام التعليم المدمج باستمرار جميع الطلاب بالدراسة عن بُعد باستثناء بعض المقررات (مقررات الدراسات العليا ومقررات المختبرات العلمية ومشاريع التخرج والأبحاث والمقررات ذات الطبيعة العملية، مقررات التدريب الميداني ) ومع عودة بعض الطلاب لدراسة هذه المقررات في الحرم الجامعي لفصل الخريف 2020 " ان هذا التعميم يتضمن تمييزا صريحا وخطيرا على مواد العلوم الإنسانية والاجتماعية وإن لم يكن مقصودا، ويوجد فيه دلالة واضحة على التقليل من أهمية العلوم الإنسانية مقارنة بالعلوم التطبيقية. إن استثناء طلبة العلوم الإنسانية وكأن علم التاريخ ليس علما، وكأن الجغرافيا ليست علما وكأن الاقتصاد والسياسة ليست من العلوم. إن هذا العداء للعلوم الإنسانية مصدره العقلية البيروقراطية والتكنوقراطية التي لا ترى في العلوم إلا أمجاد العلوم التطبيقية ومع الأسف ان هذا الرأي اصبح يعتقده بعض صناع القرار وكثيرا ما نسمع منهم ومن جلسائهم هذا الإيقاع والنغم في تقديس التكنولوجيا ولا اعتراض لنا على ذلك، لكن بشرط عدم امتهان الآداب والتاريخ والجغرافيا والعلوم الإنسانية عامة. آخر القول: العلوم الإنسانية هي أم العلوم كلها ولا يجب على أحد منا التقليل من أهمية هذه العلوم، فهي حجر الزاوية لبناء الحضارة والتقدم والتنمية. [email protected]