11 سبتمبر 2025
تسجيلgoogletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); كم كان مزعجا الخبر الذي أعلنه "كريس جارفيس" رئيس بعثة صندوق النقد الدولي إلى مصر، من اتفاق الحكومة المصرية والبنك المركزي المصري وفريق صندوق النقد على إعطاء مصر 422% مما سموه "حصتها" في الصندوق، أي حوالي 12 مليار دولار أمريكي، وذلك لدعم برنامج الحكومة لما سماه "الإصلاح الاقتصادي" من خلال "تسهيل الصندوق الممدد" الذي يغطي ثلاث سنوات. وإن كانت الموافقة الحالية ترتهن بموافقة المجلس التنفيذي للصندوق، والذي يُتوقع أن ينظر في طلب مصر خلال الأسابيع القادمة، فإن الخبراء بدأوا بمناقشة الدين الخارجي لمصر الذي سيصل إلى 53.4 مليار دولار، بعد حصول البلاد على قرض صندوق النقد الدولي، وبحسب الأرقام الصادرة عن البنك المركزي المصري، فإن إجمالي الدين العام المحلي لمصر ارتفع إلى نحو 2.5 تريليون جنيه في نهاية مارس الماضي، بارتفاع نسبته 11.2% عن نهاية يونيو من عام 2015. المطلعون على دهاليز ما يفعله صندوق النقد الدولي، يدركون شروطه القاسية التي لا تبدأ بإلغاء الدعم الكلي عن السلع، وتحرير قيمة الخدمات، ولا تنتهي بتعويم قيمة العملة المحلية للدول المقترِضة، بل وتحديد قيمتها الحقيقية مقابل الدولار، فضلا عن شروط أخرى سوف تقتحم هيكلية الاقتصاد المصري، كما فعلت بدول أخرى حتى دمرتها اقتصاديا. أحد قراصنة الاقتصاد في العالم "جون بيركنز" ألف كتابا سماه "الاغتيال الاقتصادي للأمم"، تناول فيه ما تفعله هذه المؤسسة -التي لا يخرج قرارها السيادي من أمريكا- من تدمير ممنهج للدول التي ارتهنت لها! بيركنز تحدث عن الصندوق كأداة إمبريالية تسهم في نهب وتدمير اقتصاد الدول النامية لضمان استمرار تبعيتها للسياسة المالية العالمية، وهي في حقيقتها لا تُخرج الدول من دائرة الفقر، وإنما تحرص على إبقائها فقيرة ولكن بمديونية أكبر، كما يذكر ذلك عالم الاقتصاد ميشيل تشوسودوفيسكي. بيركنز تحدث عن ألفاظ "الحكم الرشيد"، و"تحرير التجارة"، و"حقوق المستهلك" و"خصخصة الخدمات"، والتي لها نتيجة واحدة وهي "الهيمنة". في تقرير جميل نشره موقع "نون بوست"، أشار فيه إلى تجارب دول أخرى نجح صندوق النقد الدولي في إفقارها مثل البرازيل والأرجنتين ودول إفريقية أخرى، بخطوات متشابهة، سنخصص لها مقالا منفصلا. التقرير ذاته أشار إلى دول نجحت في حماية نفسها من تطويق صندوق النقد بدرجات متفاوتة، مثل تركيا وماليزيا وإندونيسيا. في مارس 2002 قدم الاتحاد الدولي للمحاسبين الوصفة التي تُمنح الدول القروض على أساسها. اشتراطات كثيرة ومعقدة لا يتم إتمام التحويلات المالية إلا بها، وهي في جلّها تزيد مديونية الدول وتُبقيها فقيرة، فضلا عن تقييد ومحاصرة دور المؤسسات السياسية الوطنية، بل تتعداها إلى مؤسساتها الديمقراطية، ما يعني وصولها إلى قرارات الدولة السيادية سياسيا واقتصاديا وحتى اجتماعيا. مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق تحدى وصاية صندوق النقد الدولي، واستطاع خلال عامي 1997-1998 إبّان الأزمة المالية التي اجتاحت ماليزيا حينذاك تبنّي أجندة اقتصادية صلبة، حيث طبّق حزمة من الإصلاحات الاقتصادية، بدأها بالقضاء على الفساد في الجهاز المصرفي، وحارب المضاربة على العملة الماليزية في الخارج، كما أنشأ شركة حكومية لدعم شركات البورصة المحلية، ووضع قيودا على حركة رؤوس الأموال وربط عملة ماليزيا بالدولار الأمريكي، وألزم مهاتير المصدرين بالتنازل عن قيمة الصادرات بالكامل للجهاز المصرفي، طبعا ذلك كان ضمن حزمة اقتصادية متكاملة. يقول مهاتير في محاضرة له بالقاهرة في 2013: "... تقدم الصندوق بقائمة مطالب منها تخفيض قيمة العملة، وتحقيق فائض في الموازنة العامة للدولة، والسماح بإفلاس الشركات...، بالطبع كان لا بد أن نرفض لأنه عندما يتم تخفيض قيمة العملة، فإن ذلك سوف يجعلنا نفلس..". أضاف: "هذا ما يفعلونه.. بيع وشراء العملة بما يحقق لهم مكاسب خيالية، وعرفنا لحظتها أنهم يحاولون تدميرنا، وعلى الفور قررنا عدم قبول نصائح النقد الدولي". نجحت ماليزيا في حماية نفسها، لكن دولا أخرى لم تنجح مثل بيرو وغانا وزامبيا والبرازيل والأرجنتين وأخيرا اليونان التي سجّلت عجزا عن سداد ديونها المستحقة، والذي وضع الاقتصاد العالمي والأوروبي بصورة خاصة أمام لحظات فارقة في تاريخه. نموذج آخر هو الحكومة البرازيلية، التي دفعت بين عامي 1985 و1989، 148 مليار دولار، منها 90 مليار دولار لفوائد القروض الأجنبية! بل وصلت الخطورة إلى أن البنك الدولي بدأ يتدخل في وضع الدستور البرازيلي، ما تسبب باشتعال الصدامات في صفوف الشعب قبل سنوات. الأرجنتين تعرضت لتدمير قضى على طبقتها الوسطى وألحقها بالفقيرة، بل وصل بها الحد في التسعينيات إلى بيع ما يسميه الأرجنتينيون "مجوهرات الجدة"، من نفط وغاز ومياه وشركات الكهرباء والبنوك الحكومية. وحتى نظام الضمان الاجتماعي تمت خصخصته، وتم تحويل الكثير من مخصصاته إلى حسابات خاصة. كل ذلك تسبب في انهيار اجتماعي أثار سخطا وشغبا شعبيا عارما! هي نماذج لخطط البنك الدولي لتدمير اقتصادات الدول وإفقارها، والتي لابد يوما من أن تطول سيادتها اقتصاديا وسياسيا، حتى لو كانت تنعم بمؤسسات ديمقراطية مثلا. متى ما استطاعت دولنا أن تستقل بنفسها فيما تصنع وتأكل، لتجعل من اقتصادها قوة لها مكانتها السياسية النافذة والمؤثرة، حمت نفسها من "استعمار" واحتلال جديد وناعم، لن يتوقف على الإفقار وزيادة المديونية، ولكنه سيطول أمنها السياسي والاقتصادي والاجتماعي أيضا. متى ما استطاعت دولنا الخليجية والعربية والإسلامية أن تتكامل وتتحالف اقتصاديا وماليا، فلن تستطيع أمريكا بأدواتها وأذرعها الخبيثة أن تدمّر ما تبقى من سيادة لدولنا، ولن يتوقفوا يوما ما عن استهدافها. خَفُت زمان "الاستعمار" بالسلاح والحاكم العسكري والمستشارين الأجانب الذين يحكمون باسم الإمبراطوريات الغربية، وجاء زمان الاستخراب الناعم، الذي جعل دولنا رهينة للغرب في الوقت الذي تظن فيه أنها استفادت من خدماته، وهي لا تعلم أنها تضيّق الحبال على رقابها حتى الاختناق.