30 أكتوبر 2025

تسجيل

السناجب

17 مايو 2015

انحدرت من سماء مشمسة إلى أخرى غائمة في معظم فصول السنة، ماطرة، باردة، ذات أرض معشبة بكثافة، أجلس على كرسي خشبي طويل، ثُبتت أرجله في أرضية المكان الحجرية ذات اللون الرمادي، على رأسي مظلة خضراء نُقش عليها اسم "هارودز" بلون ذهبي، كان المطر ينهمر بلا توقف،كاد يُغرقني ويبدو أن غيوم السماء أقسمت عليه ألا يفعل ! ألا يُقدم على هذه الفعلة السيئة فيطفو جسدي على الأرض . ثم تسيح بصماتي وخطوط يدي فيضل الطريق وتتوه قارئات الكف عن ملاحقة ذكرياتي، وأمسي ونسياني، وتنبؤات مستقبلي المبهوت، يا لغبائهن فقد قرأن كتاباً بلا عنوان، بلا كلمات، بلا ورق ممتلئ بأسرار حياتي الشخصية .هذا أنا لا يعرف عني إلا شخص مجهول لم يعرف اسمي بعد، كنت أجلس وأرى ذلك السنجاب بجسده الصوفي، المائل إلى اللون البني الفاتح، بيده بندق يخشى عليه من الضياع، فيبحث عن أرض يدفن بها ذلك البندق، ربما لديه أبناء ! ربما مديون ومهدد بالسجن في شجرة أخرى منتصبة في بورتلاند تُحيطها السناجب السوداء الشريرة، ربما مريض، أو حزين خانته حبيبته فأُصيب عقله بالاختبال، ربما هو مسحور يحتاج إلى كسر بندق والتصدق به، لقد تآلف معي السنجاب فهو يدخل ويخرج من شجرته ويرمقني دون أن يخاف، وفتح حقيبتي الجلدية الصغيرة باحثاً عن بنادق إضافية .ولكنه لم يجد إلا جنيهات إسترلينية قليلة ادخرتها لشراء كيس بندق لبعض السناجب البشرية في حياتي . سنجاب أول يرمقني بنظره، ويُظهر لي أسنانه، ليست ابتسامة إنما أنياب تُخفي خلفها بنادق سامة، له ذيل مائل كأنه أُرجوحة، ناعم كشعر طفل مولود، عيناه عسليتان كما هو الشهد المصفى، لديه بندقان، قطعة في فمه والأخرى في يده يمسكها بإحكام، كلما وقعت منه قطعة سارع في التقاطها ووقعت الأخرى،يحفر الأرض بأظافره ليبحث عن بنادق لأصدقائه السناجب ويسرقها عنوةً !واستمرت حياته على هذه الحال، ما بين بندق وآخر، حلال و حرام.سنجاب ثانٍ يجلس أعلى الشجرة، خائفاً ينظر للأسفل، دميماً، خبيثاً، يُراقب أصدقاءه السناجب الآخرين، لم يدركوه بعد وهو يرميهم بقشور البندق، وأحجار صغيرة مفتتة، بقصد إيلامهم، وفي منتصف الليل وهم نائمون، يسعى لحفر الأرض بأظافره أمام أبواب بيوتهم الصغيرة، ليقعوا وسطها، أسنانه صفراء من شدة حفره للحاء البلوط والصفصاف، ريشه كث يميل إلى اللون البني الفاتح، تخين الجسد، وذيله به ريش كثيف، عيناه دائرية ذات لون غامق يبعث على النعاس عند تأمله، كأنه ساحر ذو معطف أسود، يطعن ظهر أصدقائه غدراً، من رآه من السناجب الأخرى فليغرس أظافره في قلبه .سنجاب ثالث وقف أمامي بجسده وريشه ذي اللون الرصاصي، وقد أمعن النظر في ملامحي الممزقة، ومظلتي تستدير فوقي كحائط يحول دون هطول علامات التعجب، سناه بارزان، وذيله قصير، أخرجت من حقيبتي كيس البنادق ورميت قطعة واحده أمامه، تدحرجت على الأرضية الرمادية المبتلة، قام بسحبها عنوةً واحتضنها، ثم أكلها أمامي دون أن يهرب، دون أن يدفنها في مكان ما، دون أن يخاف مني، وقف واستدار نحوي بعد أن التهم تلك القطعة اليتيمة، وركبه الفضول وقفز على حقيبتي الصغيرة ليبحث عن شيء آخر،ليس فقط عن بندق ولا فاكهة، ولا مكسراتـ، إنه يبحث عن كل شيء، عن تفاصيل صنع حقيبتي، عن سبب تواجدي هنا، عن مظلتي بكم اشتريتها، عن كلمتي كيف كتبتها، عن كل شيء، فذكرّني بأحدهم، تركت مخيلتي جالسة على الكرسي الخشبي المتآكل، اصطحبت عجوزاً طاعنة في السن ترتدي معطفاً حليبياً وقبعة ربما يعود صنعها إلى السبعينيات، كنت قد رأيت تلك العجوز جالسة على الكرسي المحاذي، فاصطحبتها سيراً على الأقدام لأسألها كيف أعيش وسط عالم أبله لا يفهم !؟ ثم توقف المطر وعادت السناجب إلى بنادقهم المدفونة .