19 سبتمبر 2025

تسجيل

المجتمع بين الهوية السردية والهوية الميتافيزيقية

17 أبريل 2019

في ستينيات القرن الماضي وحتى أوائل الثمانينيات منه، كانت الفرجان في قطر مكاناً رائعاً لممارسة الهوية كسرد. في الريان -حيث كنت أعيش- كانت جميع عوائل قطر وقبائلها تقريباً اجزاء منها تقطن هذه المنطقة التاريخية من قطر، بمجرد أن تخرج من بيتك أنت في علاقة أفقية مع الآخر المختلف عائلياً وقبلياً في جوف الفريج ننشئ علاقة مع الاخر الاجنبي، صاحب الدكان الايراني وراعي القهوة الهندي والزراع العماني، نتقهوى في مجلس أحد الشيبان ونتعشى على «دجة» آخر من عائلة أخرى. هكذا بكل تلقائية وفي المجلس المجتمع كله يلتقي نظراً لهذا التنوع الموجود في الفريج، لا نعرف القبلية، ناهيك عن الطائفية، العلاقة قائمة على الالتقاء، لا تكاد تحس بالعمق بقدر ما تستطيع أن تلمس وتحس باللقاء وحرارته، الذي جعل الفريج خالياً من الغموض الذي يربي الخوف وينشئ الستار بين الافراد. هذا الاختلاف الجميل جعل من الحياة هوية، السلطة كانت مبثوثة في كل مكان كرموز من العائلة الحاكمة أو الوجهاء، الالتقاء شبه اليومي بهم والتشاور والتناصح والتداول المستمر لمشاكل الفريج، هذا التمازج أوجد هوية سردية تعيش وجودها بقدر تواجد الاخر، هذا الاغتناء أوجد قطرياً يعي ذاته بقدر وجود الاخر غير القطري، كنا ذواتاً قبل أن نكون هوية. كيف بدأت الهوية الميتافيزيقية في التشكل؟ حينما بدأنا بإنشاء ما يسمى فرجان العوائل كل على حدة وأزلنا الاحياء القديمة التي كانت تمثل نموذجاً رائعاً للهوية السردية كالبدع والرميلة والريان والجسرة. الهوية الميتافيزيقية كما أرى هي الهوية التي تمتلك ذاتها في داخلها ولا يمثل لها الخارج أي بعد تمايزي، وتعتقد بقدرتها على الاستغناء عن الاخر «كل هذا في أعماقها» يعني أن تصبح «جوهرا». مع فرجان العوائل وبعض الامتيازات الاخرى كذلك التي يغلب عليها المسمى العائلي والقبلي دخل المجتمع مجال الهوية الميتافيزيقية، فأصبح الفريج كله لقبيلة واحدة وداخل الفريج ذاته احياء لعائلة واحدة دون غيرها منها، فأصبح الفرد يعيش مع ذاته ولا يرى الا من يشابهه. ما أود الإشارة إليه هو أن الدولة اليوم غيرها بالأمس، وأصبح سؤال الهوية القطرية بما هي جوهر مطروحاً في كل مكان، وهو سؤال زائف، الهوية هي الهوية السردية التي كنا نعيشها في السابق ويمكنها الاستمرار والتطور بشكل تلقائي اذا لم تتدخل الحكومة بإجهاضها، كما اشرت حينما شرعت في انشاء ما يكرس الهوية الميتافيزيقية الأولية، مثل بعض الاحتفالات وبعض المناسبات الفارزة بشكل واضح، ايضاً التجنيس العشوائي والسريع يعتبر مقتلاً لتطور الهوية السردية الفاعلة التي تُمارس وجودها بتلقائية وحرية، فالسرد يجعل من الحرية أساساً للهوية المنفتحة على الاخر. هذا مثال بسيط أردت إيضاحه لأهمية الهوية السردية التي كنا نمارسها تلقائياً لولا خطوات اخرى لم تكن مدروسة بشكل كاف قضت عليها أو أزاحتها عن المشهد نتيجة الاعتقاد بأولوية الهوية على الحرية ورأي المجال العام والاوساط الاجتماعية. مما جعل من الهوية القطرية «جوهراً» متعاليا بعد أن كانت «سرداً» منفتحاً، واليوم يبدو الخوف عليها خوفاً مبالغاً فيه لغياب الحرية كأولوية. [email protected]