17 سبتمبر 2025
تسجيلتعرِّف اللغةُ العربيّة الشيب بأنه بياض الشعر وابيضاض الشعر ؛ ويصيب الشيب الرأس أو اللحية أو مواضع أخرى من الجسم، وأُثر عن أهل العربيّة وصفهم الشيب بأنّه: «حُلية العقل، وسِمَة الوقار!» ومنهم من وصفه بأنه الألق الذي يزيِّن رأس الانسان، ومنهم من عدَّهُ مسبباً للقلق، وأسموه (الكاسر) الّذي يبعث في النفس آهات الألم كلما تقدَّم الإنسانُ بالعمر! والقرآن الكريم لم يغفل الحديث عن هذا التغيُّر الّذي قد يصيب الإنسان دلالة ظاهرة على الضعف والكبر؛ وظهر ذلك على لسان سيدنا زكريا (عليه السلام) عندما دعا ربّهُ متعجّباً: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شقيا) (4) من سورة مريم. ويستطيع الإنسان أن يرى في الشيب ظاهرة بيولوجية شكليّة تلمع في رأس الانسان ببعدها الفيزيائي على الوجود والحضور، فهو إحدى أدوات القياس، يقيس مسافات العمر دون التباس! وإن كان القرآن قد أشار إلى هذه الظاهرة البيولوجيّة إلّا أن المعنى عميق جداً في ثنايا الآية الكريمة السالفة الذكر؛ فالإنسان الحاذق يتعظ بالمشيب ويفهم الرسالة عن الله خاصة وإن كان نزول الشيب بفعل الزمن لا بفعل الجينات الوراثيّة! وقد زخر التراث الأدبي بوصف الشيب مدحاً وذمّاً بناء على ما يراه الأديب فيه؛ فنرى دعبل الخزاعي يصف الشيب برداء الحلم والحكمة والأدب، ويراه حتميَّ الظهور في الرأس حيث يقول: إِنَّ المشِيبَ رِداءُ الحِلمِ والأَدبِ كما الشبابُ رداءُ اللَّهوِ واللعبِ تَعجَّبَتْ أَنْ رَأَتْ شَيْبي فقُلتُ لها: لا تعجبي، مَنْ يطُلْ عمر بهِ يَشِبِ وأمّا الفرزدق فقد شبَّهه بتجارة كاسدة حيثُ لا يحفل بمن يشتريه، متطيراً من سطوته على سواد الشباب، فيقول: وَالشَّيبُ يَنهَضُ في السّوَادِ كأنّهُ لَيْلٌ يَصِيحُ بِجَانِبَيْهِ نَهَارُ إنّ الشّبابَ لَرَابِحٌ مَنْ بَاعَهُ وَالشَّيْبُ لَيسَ لِبَائِعِيهِ تِجَارُ وقد وصفه الشريف الرضي بالداء الذي يمنعه من الهوى؛ ليعيش شغف الهوى والتصابي عندما فارقته سطوة الشباب وعنفوانه، وأقبلت عليه الدنيا بعدما وقع أسير الشيب؛ ليدفع ذلك الشعور الشجي في نفسه ولا يُصرّح به، فأنشأ يقول: أُراعي بُلوغَ الشَيبِ وَالشَيبُ دائِيا وَأُفني اللَيالي وَاللَيالي فَنائِيا وَما أَدَّعي أَنّي بَريءٌ مِنَ الهَوى وَلَكِنَّني لا يَعلَمُ القَومُ ما بِيا ونجد مَن نظر للشيب بعين الجمال والكمال فهو زينة تضفي جمالاً على المرء، والازدراء ممن يرفضوه، حيث يقول الحمصي أمين الجندي: عيرتني بالشيب وهو وقار ليتها عيرت بما هو عار إن تكن شابت الذوائب مني فالليالي تزيِّنها الأقمار ومهما استعرضنا ما وُصِفَ به الشيب فهو أحد مواقيت النضوج ومكمن الخبرة، يُزين ملامح العمر بالرزانة، ويُسبغ على صاحبه هيبة الحضور واتضاح الرؤية؛ فصاحبه يحظى بنوع ٍ خاص من الاحترام، ويتجاوز مذاق الاحترام المهني فهو ممزوج بنكهة العِفّة والتقدير وعفوية اللقاء، ونجد ذلك في غير ثقافــة حيث تقول الثقافة الألمانيّة: «رأس المجنون لا يعتريه الشيب»!، وهذا ما يدعم رأي حكماء أهل العربيّة!