18 سبتمبر 2025

تسجيل

مازال لدينا ما نفاخر به

16 نوفمبر 2012

وسط هذا الركام من الانتكاسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ووسط هذه المشاعر العامة بالإحباط والخمول والتردي في مهاوي التشاؤم، تلمع بين الحين والحين أشعة من نور هادٍ مبهج مشبع بالأمل، وغالبا ما تكون تلك الأنوار منبعثة من مجلس الدولة: معقل قضائنا الإداري العتيد ذي التاريخ المجيد، وقد كنت من زمن طويل أشعر بالفخر والاعتزاز لأنني أنتمي إلى طهطا التي قدمت للعالم العربي كله رفاعة الطهطاوي رائد التنوير، فإنني اليوم أزداد فخرا واعتزازا بهذه المدينة التي قدمت لمصر وللعالم العربي كله مؤسس مجلس الدولة الفقيه القانوني العلامة الدكتور محمد كامل مرسي رحمه الله. أقول هذا بمناسبة تلك الأحكام المتفردة التي صدرت مؤخرا عن محاكم القضاء الإداري بخصوص قضايا تمس حرية التعبير لمصلحة فرع قناة الجزيرة بالقاهرة، ولمصلحة رئيس تحرير جريدة الجمهورية جمال عبدالرحيم الذي تم استبعاده من موقعه بقرار من مجلس الشورى وغيرهما من الأحكام المتعلقة بحرية التعبير والتي ورد بها تأصيل علمي موثق لأسس مبدأ حرية تدفق المعلومات وحق الناس في المعرفة. كما في نص الحكم الخاص بقناة الجزيرة حين تقول المحكمة: [.... وحيث إن حرية التعبير تقتضي ألا يكون غلق القنوات الفضائية أو وقف بثها، إلا ملجأ أخيراً عندما تتوفر ظروفه وأسبابه، فهو أمر يتصادم ـ بحسب طبيعته ـ مع قيد التعددية الإعلامية المتعلق بمراعاة حق المشاهد والمستمع في استقبال رسالة اتصالية تعددية من خلال برامج متنوعة وإفساح المجال للتكوينات السياسية والاجتماعية المختلفة للتعبير عن نفسها للتفاعل في إطار مشترك، فلا يكون جزاء إلغاء الترخيص وغلق وسائل التعبير سبيلاً لمواجهة الاختلاف في الرأي، وإنما تكون حماية حرية التعبير وحرية الاتصال وحرية تدفق المعلومات هي الأولى بالحماية حتى لا يفقد المستمع والمشاهد حقوقه في تلقي البرامج المنوعة الجادة والمسؤولة، وإلا كان في القول بغير ذلك تمكيناً للمنحرف والمخطئ من أن يوقع بفعله ما من شأنه الإضرار بالحرية المسؤولة، وغلق نوافذ النور والحرية التي هي حق خالص للمشاهد والمستمع في انتقال الأفكار والمعلومات إليه داخل نسق معين يختلف من حيث الحجم والمحتوى...]. وقد استندت المحكمة في أحكامها الخاصة بقضايا الرأي إلى ما استقرت عليه أدبيات الإعلام خاصا بنظريات الإعلام الأربع الشهيرة وأهمها نظرية المسؤولية الاجتماعية [ وهو ما توسعت في شرحه في كتابي: الإعلام التربوي في مصر، هيئة الكتاب 1989] فقد تبنت المحكمة التوجه القاضي بأن حرية الاتصال السمعي والبصري لا يحكمها (نظرية السلطة) وهي الصحافة والإعلام الداعم للسلطة وأقوال وأفعال الحاكم أياً ما كانت، ولا يحكمها كذلك (نظرية الحرية) القائمة على إطلاق حق الفرد في المعرفة بحسبانه حقاً طبيعياً لا يخضع لرقابة أو قيد من أي نوع، ومن ثم حق الفرد في إنشاء الصحف والقنوات الفضائية دون ترخيص أو تصريح، وإنما يحكمها (نظرية المسؤولية الاجتماعية) وهي النظرية التي قامت لتواجه نظرية الحرية المطلقة بما قدمته من مواد الجريمة والجنس والعنف واقتحام خصوصيات الأفراد والتشهير بهم ونشر الشائعات والأكاذيب، ولتنبذ إعلام الابتذال والابتزاز والمبالغة، ومن ثم ارتكزت نظرية المسؤولية الاجتماعية على أن (للإعلام المقروء والمرئي والمسموع والرقمي وظيفة اجتماعية، وأنه يتعين إقامة التوازن بين حرية الرأي والتعبير وبين مصلحة المجتمع وأهدافه وحماية القيم والتقاليد والحق في الخصوصية)، فالحرية وفقاً لهذه النظرية (حق) و(واجب) و(مسؤولية) في وقت واحد، والتزام بالموضوعية وبالمعلومات الصحيحة غير المغلوطة، وتقديم ما يهم عموم الناس بما يسهم في تكوين رأي عام مستنير، وعدم الاعتداء على خصوصية الأفراد والمحافظة على سمعتهم، والالتزام بالضوابط الأخلاقية والقانونية الحاكمة للعمل الإعلامي. وميثاق الشرف الإعلامي ووثيقة مبادئ تنظيم البث والاستقبال الفضائي الإذاعي والتليفزيوني المعتمدة من وزراء الإعلام العرب في 20/ 6/ 2007 ـ إنما تحكمه مجموعة من المبادئ أخصها: أولاً: الحق في التعبير عبر البث السمعي والبصري وفقاً لحكم المادة (19) من ميثاق حقوق الإنسان. ثانياً: (الحق في التعددية ودعم المنافسة وعدم الاحتكار). ثالثاً: (الحق في الشفافية). رابعاً: (مبدأ استقلال مشروعات البث السمعي والبصري في مواجهة الخارج). ومع ذلك لم تغفل المحكمة القيود الأخلاقية التي تحكم حرية التعبير وأولها ـ قيد مراعاة اعتبارات المصلحة العامة، وثانيها ـ قيد التعددية الإعلامية بمراعاة حق المشاهد والمستمع في استقبال رسالة اتصالية تعددية من خلال برامج متنوعة وإفساح المجال للتكوينات السياسية والاجتماعية المختلفة للتعبير عن نفسها للتفاعل في إطار مشترك. وثالثها ـ قيد الحق في الرد، فإذا كان للإعلامي حرية العرض والتعليق على الأحداث أو إثارة الموضوعات الهادفة ومناقشتها، فإن للمستمع وللمشاهد الحق في الرد وإيضاح حقيقة ما تم بثه وإذاعته متعلقاً به ورابعها ـ قيد الحق في الخصوصية، بمعنى أنه لا يجوز أن يتعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو أسرته أو مسكنه أو مراسلاته أو أقواله أو أفعاله، ولكل شخص وفقاً لما قررته المادة (12) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الحق في حماية القانون من مثل هذا التدخل، وخامسها ـ قيد التزام الموضوعية والدقة، بمعنى أنه يجب على مراكز ومحطات وقنوات البث السمعي والبصري تجنب اتخاذ موقف أو رأي في مسألة محل خلاف، وعدم توجيه النقاش لبلوغ نتيجة بذاتها يسعى الإعلامي لترويجها بغير حق، والبعد عن استخدام وسائل المونتاج للمشاهد المصورة. وسادسها ـ قيد عدم الخلط بين الإعلام والدعاية، فالإعلام سرد للوقائع والحقائق دونما تبديل أو تحريف أو ترتيب يحمل التوجيه بوجهة نظر مغرضة، وهو يكون بالنشر أو بالإذاعة أو التليفزيون أي باستعمال الكتابة أو القول أو الرؤية، ومن ثم فهو توضيح وتفسير للوقائع بالحقائق والأرقام، بينما الدعاية فهي العمل بكل الأساليب والوسائل لتأييد فكرة أو عقيدة معينة، فالغاية هنا تبرر الوسيلة لدى رجل الدعاية في كثير من الأحيان. فالتحية والتقدير واجبان لقضائنا الإداري العظيم معقل الحريات وحامي حماها، ومن حقنا أن نفاخر به وأن نتمسك بالأمل في مستقبل أفضل تحت حمايته.