13 سبتمبر 2025

تسجيل

من أزماتنا الحضارية

16 نوفمبر 2011

تحدثنا في المقال السابق عن أزمة السلوك في حياتنا وحتى في عبادتنا، وسنكمل عن باقي الأزمات المهمة في حياتنا. ثانياً: النظام والنظافة وحسبك لتعرف أن لدينا مشكلة في النظام والنظافة، أن تتأمل حال مساجدنا المخصصة لعبادة الله تعالى ومناجاته، على بوابة المسجد ترى الأحذية المبعثرة هنا وهناك، مع أن هناك أماكن مخصصة لوضع الأحذية، في الأماكن المخصصة للوضوء نرى الإسراف في الماء بشكل واضح. وإذا دخلت المسجد أصبح أمراً طبيعياً أن ترى من يأتي إلى الصلاة وهو يرتدي ملابس رثّة، أو ملابس النوم " البيجامة "، وهو الذي يخجل أن يقابل بها إنساناً عادياً. وأصبح أمراً طبيعياً أن تفقد خشوعك وروحانيتك بسبب الموسيقى والرنات التي تصدر من هواتف المصلّين دون حياء أو خجل. ويكفيك أن تحجّ مرة لترى تلك المخلفات التي يتركها الحجاج خلفهم، حتى وصل الأمر بنا لأن نكتب هنا وهناك عبارة (دع المكان أحسن مما كان، قدر الإمكان، فإن لم يكن بالإمكان فكما كان) وكأن أمر النظافة ليس جزءاً من ديننا، وقيمة من القيم التي ينادي بها. أزمة في النظام ومما يدلك على أننا نعاني من أزمة في النظام أن تراقب أزمات المرور الخانقة، ومخالفة المسلمين لكثير من اللوائح المحددة لتنظيم المرور، وعدم التزام كثير من السائقين بقواعد المرور إلا بوجود شرطي. ولعل ذاكرتي وذاكرتك لا تنسى مشهد سائق متهور، يسوق بسرعة وبعكس السير، مخالفاً بذلك قواعد المرور، ومعرضاً حياة الآخرين وممتلكاتهم للخطر. وفي بعض بلداننا العربية خاصة الخليجية يوجد هناك في الشوارع "حارات الأمان " وهي مخصصة للطوارئ مثل مرور سيارات الإسعاف أو الدفاع المدني، وليست مخصصة للسيارات العادية، ومع ذلك فإن الكثيرين لا يراعون الهدف الذي من أجله جُعلت هذه الحارات، فعند حدوث أزمة خفيفة ترى الكثير من السائقين يسيرون في هذه الحارات فيغلقونها. اذهب إلى دائرة حكومية لإنجاز معاملة ما، قطعاً ستضيق ذرعاً بمماطلة الموظفين المختصين، وسترى تقاعسهم عن تقديم أحسن الخدمات، وسيزعجك تأخرهم في تحقيق مطالب المراجعين. وهذه السلوكيات وغيرها ما هي إلا انعكاس لأزمة التخلف الفكري الذي نعاني منه. ثالثاً: احترام الوقت من الأزمات السلوكية التي تعاني منها أمتنا عدم احترام الوقت، حتى أصبحت ظاهرة يُعرف بها العرب، إلا من رحم ربي، مع أن ديننا الإسلامي يعلمنا احترام الوقت، بل ويتعامل بالثانية وليس بالساعات، ففي شهر الصيام مثلاً هل يجرؤ أحد منا على أن يمدّ يده إلى طعام الإفطار قبل أن يسمع الأذان، مع أن ما يفصله عن الأذان مجرد ثوانٍ. وكذا الصلاة هل يسقط الفرض عن مسلم نوى الصلاة قبل دخول الوقت بثوانٍ، لا لأن الله تعالى جعل له وقتاً فقال جلّ وعلا (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (أي أن الصلاة لها وقت، لا يجوز أن تتقدم عليه أو أن تتأخر عنه في الأحوال العادية. وكان رستم قائد الجيوش الفارسية في العراق، يتحرّق غيظاً إذا رأى صفوف المسلمين في الصلاة فيقول " أكل عمر كبدي يعلم الكلاب الآداب " أي يعلم العرب النظام والأدب. مواعيد عرقوب وهذا مثل عربي يطلق على من يعد الناس ويخلف الوعد، ولا يفي بوعده، وللمثل قصة، فيحكى أن رجلاً اسمه عرقوب أتاه أخ له يسأله شيئاً، فقال له عرقوب: إذا أطلعت هذه النخلة فلك طلعها، فلما أطلعت أتاه فقال: دعها حتى تصير بلحاً، فلما أبلحت أتاه فقال له: دعها حتى تصير زهواً، فلما أزهت قال له: دعها حتى تصير تمراً، فلما أتمرت عمد إليها عرقوب من الليل فجذها ولم يعط منها شيئاً، فصار مثلا للإخلاف بالموعد، وعدم الوفاء بالوعد. وكثير منا ينطبق عليه مثل " مواعيد عرقوب "، الذي يعكس مدى أزمة احترام الوقت في المواعيد الشخصية، والمواعيد الأسرية، ومواعيد الدوام في الدوائر الحكومية، فبعض الدوائر لا تعمل بعد الساعة العاشرة صباحاً، وفي أحسن الأحوال ينتظرون حتى الساعة الثانية عشرة ظهراً. مواعيد عرقوب أخاه بيثرب رابعاً: السلوك الاجتماعي وأعني بالسلوك الاجتماعي: برّ الوالدين وأول هذه السلوكيات وأهمها هي بر الوالدين، فما قيمة الشهرة وسعة العلاقات الاجتماعية لشخص لا يبرّ والديه، بل هو عاق لهما، ومسألة برّ الوالدين مسألة مُجْمَع عليها بين الأديان، فكل الأديان جاءت توصي ببر الوالدين والإحسان إليهما، لاسيَّما وقت الكبر، حيث الضعف والخور، والحاجة إلى المساعدة، والقرآن كان صريحاً وواضحاً في هذا المسألة، وجاء الأمر بلفظ القضاء، بمعنى أي أمر وألزم وأوجب وحكم، فقال الله تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) (الإسراء وبر الوالدين ليست قبلة على الرأس، ولا مجرد دقائق نجلسها معهم على مضض، ولا هي كذلك اتصال بالهاتف لدقيقة تزيد أو تنقص، بل هو أعمق من ذلك وأبعد، بر الوالدين يعني أن نبدع ونتفنّن في إرضائهما وكسب ودّهما. أسرنا تستغيث العلاقات المادية المبنية على النفع والمصلحة قتلت الدفء العائلي الذي كانت تُعرف به العائلة المسلمة، وتأثرنا كثيراً بالقيم الغربية التي سلبتنا حلاوة الجلوس مع العائلة، والقيام بنشاطات مشتركة، وأصبح الشيء الوحيد الذي يجمعنا هو وجبة الطعام، هذا إن اجتمعنا عليها. فقدنا كثيراً من الخيرات والخبرات عندما فقدنا " العائلة الممتدة " التي يجمعها بيت واحد، فيه الجد والجدة والأبناء والأحفاد. انظر إلى علاقة الأب مع أولاده تجدها فاترة، وعلاقة الزوج وزوجته متوترة، وهناك من يتزوج بالسرّ، وكم هي القضايا المسجلة في المحاكم بين الجيران، وخلافات محتدمة بين الأخوة والأقارب. سلوك راقٍ حتى عند الطلاق إسلامنا دين عظيم، يحض على السلوك الراقي، حتى عندما يفارق الزوج زوجته، وضع ضوابط رائعة تدل على ذوق وجمال، وقمة في السلوك الاجتماعي، فمثلاً لم يجعل للرجل حرية الطلاق بغض النظر عن الزمان الذي يقع فيه الطلاق، فعلى الرجل أن يطلق زوجته في طهر لم يمسها فيه، وتحدث الفقهاء عن الطلاق البدعي المخالف لهدي النبي (زمناً أو عدداً، فقالوا: يحرم الطلاق البدعي وهو الواقع في الحيض ونحوه كالنفاس وطهر وطئ فيه، وأنا أزعم أن نسبة الذين يلتزمون الشرع عند ممارسة حقهم في الطلاق لا تتجاوز (5%)، والباقي كله طلاق يخالف هدي النبي (، ويخالف أبسط قواعد السلوك الاجتماعي الراقي. تربية الأولاد أيضاَ على مستوى التربية لدينا أزمات ومشكلات، فكثير من الآباء والأمهات يخلطون بين التربية والتثقيف، فيظنون أنهم ناجحون في تربية أبنائهم بمجرد أنهم اختاروا له مدرسة نموذجية، ثنائية اللغة، عالية التكاليف. ولا زلنا نسمع ونرى من يطبق على أبنائه ما طبقه عليه والداه، وكأن تربية الأجيال عملية استنساخ، بغض النظر عن الزمان والمكان واختلاف البيئات. وهنا لا بد من التأكيد على أن التربية لم تعد تعتمد على الاجتهادات الشخصية، بل لا بد من القراءة والاطلاع على نظريات التربية، وسؤال المختصين. الانحرافات الأخلاقية كثرة الانحرافات الأخلاقية هي أكبر دلالة على معاناتنا من أزمة في السلوك، فأصبحنا لا نبالي بانتشار المفاسد الأخلاقية بين شبابنا وصغارنا، بين أبنائنا وبناتنا، وأحياناً نتقبل الوضع باسم المعاصرة والواقع، وتبدل الأحوال والعادات. المفاسد الجنسية آخذة بالازدياد، ونار المخدرات تحرق كل يوم المزيد من البيوت، والتدخين بدأ ينتشر بين الصغار والمراهقين بسرعة كانتشار النار في الهشيم، ولم أرّ عادة سيئة ومنتشرة مثل التدخين، ولقد اطلعت على بعض الإحصاءات التي تقول: إن بعض الدول تصل نسبة التدخين فيها إلى (71 %) من فئة الشباب، والنسب في باقي الدول في ازدياد، مع إجماع الفقهاء والعقلاء على الضرر العظيم الذي يخلف التدخين على الإنسان من ناحية دينية وصحية ومالية وسلوكية واجتماعية. حظر التدخين نلاحظ هنا أن معظم بلدان العالم العربي فيها قرار بمنع التدخين في الأماكن العامة، ولكنه في الغالب مجرد حبر على الورق، فقلة من الناس المدخنين من يلتزم بقرار المنع، وهناك تلكؤ من الحكومات والأجهزة المختصة في تنفيذ هذا القرار، رغم أهميته.