11 سبتمبر 2025

تسجيل

ب..ب

16 نوفمبر 2011

منذ أيام كنت أقضي الإجازة في مدينة برشلونة الإسبانية، التي يحتضن البحر فيها الجبل الذي تمتد عليه أشجار النخيل واللوز في منظر ساحر، وهي تطل على شاطئه الذي ترسو عليه السفن الشراعية البيضاء، وتغص فيه المقاهي بالبشر في كل مكان. صخب وحديث وأصوات تتعالى، ضحكات وابتسامات، وبشر يشعرون بروعة الطبيعة ومتعة الصحبة، ويستخدمون كل حواسهم، يمدون أنظارهم إلى البحر الممتد والفضاء البعيد، ويعودون يلونونها بلون الجبل الأخضر المخلط بأوراق الخريف الصفراء، وألوان الزهور الموسمية، يستمعون بكل كيانهم لمن يصحبون وصوت البحر وراءهم كأنه الموسيقى التي تصاحب المشاهد التصويرية، يلمسون أكواب الشاي وفناجين القهوة، ويشمون بعمق رائحتها التي تختلط بنسمة الخريف، يتذوقونها ويشعرون بطعمها ويتلذذون به، إنهم الباحثون الحقيقيون عن لحظات راحة واسترخاء واستمتاع تظل عالقة في أذهانهم، يسترجعونها ذكرى جميلة كواحة خضراء عندما تزحف الصحاري على أيام حياة، فيجدونها إنجازاً رائعاً كان بحياتهم يوما ما. قديماً كانوا يقولون اننا نحن العرب من يصنع المتعة والصخب والأحاديث، ومن لدينا الاهتمام بالتماسك العائلي والشعور بقيمة الصحبة والصداقة، وهذه كانت حقيقة في وقت من الأوقات، ولكن وللأسف هناك أشياء كثيرة أثرت على أسلوب حياتنا وعلى علاقاتنا، أشياء لا تعد ولا تحصى، ربما الكثير منها ما لا نملك تغييره وهو ما تجرفه رياح التغيير في الحياة علينا بقوة، ولكن هناك بالطبع ما اخترنا نحن أن نفرضه على حياتنا بقوة، ربما لايمكننا أن نكتشف سلبياته اليوم، إلا أنها لابد آتية. فلا أستطيع أن أصدق ما أحدثه جهاز البلاك بيري في كثير ممن حولي، فهم لم يعودوا متحدثين ولا مستمعين ولا منتبهين ولا موجودين، ففي نفس المدينة برشلونة دخلت عائلة خليجية إلى بهو الفندق كان واضحا أنها قد وصلت للتو، كل العائلة بلا استثناء منشغلة أيديهم باستخدام أجهزة البلاك بيري، وبينما موظفة الاستقبال تنتظر أخذ البيانات لتسلم الغرف،كان الأب والأم والأبناء يسألون أحد موظفي الفندق عن مكان شراء الشرائح لهواتف البلاك بيري في منظر مضحك مبك على إلحاحهم الشديد وكأن الحياة سوف تتوقف إن لم يحصلوا عليه، ورأيت نفس العائلة مرة أخرى صباح اليوم التالي على طاولة الإفطار، يستخدمون يدا واحدة فقط، أما الأخرى فتستخدم البلاك بيري. وفي المساء صادفتهم أيضاً في شارع المشاة الطويل الذي يعج بالحياة، بينما هم فقط من لا يعيش الحياة، لايرون شيئاً ولايسمعون ولا يتكلمون، وأصبحت أتساءل ماهي حصيلتهم الحقيقية من التعرف على ثقافة هذه المدينة؟ وما المتعة التي جنوها؟وماذا ستضيف لهم هذه الرحلة؟ وليست هذه العائلة فقط وإنما بلامبالغة كانت هذه صورة لحال غالبية العرب الموجودين من الخليج. لا أحب أن أتهم هذا الجهاز الذي لاشك أنه من الأجهزة التي دخلت حياتنا مع ما دخل من التقنيات الحديثة التي سهلت علينا الكثير، ولكنني أؤكد أننا نحن من لا يحسن استخدامه، ومن يجعله سببا كبيرا يفرق بيننا، يفسد متعتنا ويغتال حيويتنا ويفقدنا كل حواسنا. ما زلت ممن يؤمن بالاعتدال وبأن المبالغة في كل شيء تفقده قيمته وتجعلنا أحياناً نرى الجميل قبيحاً. جميل أن هناك أشياء تستطيع أن تجعلنا نتواصل بسرعة وقوة.. ولكن القبيح أن نجعل نفس هذه الأشياء هي من تفرقنا في عقر دارنا.. [email protected]