15 سبتمبر 2025

تسجيل

ليلة.. أصل الوفا.. منّج

16 أكتوبر 2019

(أصل الوفا.. منّج) كان شعار ليلة الأغنية القطرية، على مسرح قطر الوطني، يوم الجمعة 11/10/2019، والتي جمعت نجوم الأغنية القطرية (مؤلفين، ملحنين، مطربين، وعازفين)، في مشهد رائع أكّدَ على دور الأغنية في وجدان أيّ مجتمع، ومدى اندماج الكلمة الطيّبة، والمودة الراقية، مع الألحان الشجيّة التي كان لا بدَّ لها من صوت يُشنّف بها آذانَ الجمهور. في الأغنية نستحضرُ صورةَ الماضي المجيد، ونستحضرُ مساحاتِ الألم التي كانت تحتلُّ صدورَ البحّارة وأهلِ الحداء. وفي الأغنية تعبيراتٌ عن حبّ الوطن وأهله، والوفاء لهم، ومشاركتهم الأفراحَ والأتراح. وفي الأغنية يتلمَّسُ الإنسانُ الذوقَ الرفيع، وينشدُ الآمال بتّسيّد الخيرِ والحُبِّ والجَمال، في هذا الكون. وكان شعار الليلة (أصل الوفا.. منّج) شطرٌ من أغنية (عيني قطر) من كلمات الشاعر جاسم صفر وألحان ناصر الخال، وأدّاها الفنان الراحل فرج عبدالكريم. وتم اختصار الأغنية بهذا الشطر المُعبّر عن حُبِّ الوطن الغالي، والوفاء له. وفي الأغنية علاجاتٌ لكثير من الجروح التي تمرُّ على الذاكرة، فتخلقُ ثقوباً غائرةً تستمر طويلاً!. ولقد شقّت الأغنيةُ القطرية طريقَها بصورة واضحة، من الأعمال التراثية المُعبّرة عن حياة أهلِ قطر وأهازيجِهم وأشعارِهم، إلى مرحلة الوهَج الرومانسي في أوائل السبعينيات، إلى الأغنية الوطنية، التي تسيّدت الموقفَ في السنوات الأخيرة. فكان حبُّ قطر يتداخل بشوقٍ ورقّةٍ مع التوقِ للحبيب! ثم اتخذت الأغنيةُ القطرية مساراً جديداً، عندما استشعر الفنانُ القطري قضايا الإنسانية، وساهمَ، كما ساهمت الهيئاتُ الرسمية المختصّة، في توضيح قضايا الإنسان، وحقّه في الحياة الكريمة، والدعوة إلى السلام ورفض الحروب وآثارها. وكان الفنان القطري الراحل الموسيقار عبدالعزيز ناصر رائداً في هذا الاتجاه، ولعلنا نستحضر هنا، أغاني: أنا إنسان، آه يا بيروت، أُحبُّكِ يا قدس، أفغانستان، قمستان، وسفينة الأحزان. وإذا كانت الكتبُ تحملُ ذاكرةَ الأمَّة، فإن الأغنية الصادقة المُتكاملة، هي الأخرى تحملُ ذاكرة الأمَّة وهمومَ المجتمع، وتطلعاته نحو غدٍ أفضل. وما زلنا، منذ أربعين عاماً نسعدُ بسماع أغاني (الله يا عمري قطر) للفنان المرحوم محمد الساعي والتي كتبها عبدالله عبدالكريم ولحّنها الراحل عبدالعزيز ناصر، ونسعدُ بسماع أوبريت (عيشي يا قطر)، الأوبريت الذي وضعهُ الكاتب الدكتور مرزوق بشير ولحّنه الموسيقار الراحل عبدالعزيز ناصر، وغنّته مجموعة من المطربين القطريين. وأيضاً، رغم مرور الزمن، ظلت الأغنية القطرية حاضرةً في الوجدان، فمَن مِنّا لا يطرب مع أغنية (حسايف) التي كتبها الشاعر خليفة جمعان، ولحنّها الراحل عبدالعزيز ناصر، وغنّاها الفنان صقر صالح. وأيضاً أغنية (تصوّر لو الهوى ما كان) للدكتور مرزوق بشير، ألحان عبدالعزيز ناصر، وغناء الفنان علي عبدالستار. رحلةٌ طويلةٌ حبلى بالكلمات الراقية والألحان الشجيّة والأداء المُميّز للمطربين القطريين، لنصلَ إلى جيل الشباب، هذا الجيل الذي يتمرن ويصبر ويثابر، كي يصعد المسرح بروح واثقة وأداءٍ مُميز. كما فعل الشابان ناصر الكبيسي ومحمد الجابر في ليلة الأغنية القطرية. وبين هذا الجيل الغضّ وجيل المُخَضرمين، من أمثال الراحليْن: فرج عبدالكريم ومحمد الساعي، والحاضرين علي عبدالستار وصقر صالح وناصر صالح، وقبلهم محمد رشيد ومحمد جولو.. وغيرهما، ظهر جيلٌ من الملحنين الذين تفنَّنوا في تلحين الكلمة، مثل الموسيقار مطر علي، والملحن عبدالله المناعي، والملحن محمد المرزوقي، وهم من أنشط الملحنين هذه الأيام، وكانت لهم أعمال جديدة في تلك الليلة. كما ظهر الجيلُ الثاني من المطربين الجادين مثل: منصور المهندي، عيسى الكبيسي، فهد الكبيسي، سعد الفهد. وعلى عادةِ قطر في تكريم أبنائِها، لم تنسَ وزارة الثقافة والرياضة تكريم رمزٍ من رموز الأغنية القطرية، هو الفنان الراحل حسن علي، الذي أخذَ على عاتقه تلحين مئات الأغاني، وتشكّلت على يده ملامحُ الأغنية الحديثة، عندما انشغل الموسيقار الراحل عبدالعزيز ناصر في دراسته بالقاهرة. وكان الراحل حسن علي يقود فرقة الأضواء بكُلِّ اقتدار، في نهاية الستينيات، وأظهرَ أولَ الألحان، أغنية (حبيبي الزين) التي غناها عبدالرحمن الحرقان. وكانت الفرقة تساهم بهذه الأغنية وغيرها مثل (عيني قطر) في المناسبات والأعراس. وكان طموح الشاب آنذاك (حسن علي) أكبر من أغنية أو اثنتين، فلقد انكبّ يُلحّن ويتصل بالكُتاب والمطربين، فغنّى له معظم المطربين القطريين، مثل: علي عبدالستار، فرج عبدالكريم، محمد الساعي، ناصر صالح، صقر صالح، عبدالرحمن الماس وغيرهم. وتنوّعت ألحانهُ ما بين الرومانسية والوطنية والرياضية. ولعلنا نستحضرهنا لحنه الشائق (حلوة مغرورة) التي غنّاها الراحل (فرج عبدالكريم)، ولحنه المثير (غرقان أنا في الهوى) الذي غناهُ الفنان علي عبدالستار. جميلٌ أن يتم تكريم هذا الرمز الفني، وجميلٌ ان تحضر حفيدته، كي تقدِّم باقةَ وردٍ للفنان الكبير (شادي الخليج)! وأعتقد لو كان حسن علي حاضراً لقدّم الباقةَ بنفسه. ومن الجديد الذي أدخلهُ المنظمون لأول مرَّة في حفل غنائي قطري، هي العازفة العالمية (سونيا بارك)، وهي من أصل كوري، وحاصلة على شهادة متميزة في العزف على البيانو من فيينا. ولقد أدّت (صُولوهاتها) بكل اقتدار وشجن، رُغم اختلاف اللغة، وهذا يُثبت أن الموسيقى لغة عالمية. ومن الجديد ايضاً وجود العازفة (هالة العمادي) والتي تظهر لأول مرة في حفل عام بأغنية (امضِ بلادي)، التي أدّتها الفنانة أصيل هميم وناصر الكبيسي. الملمحُ الأخير لليلة الأغنية القطرية هو وجود الفنانين القطريين إلى جانب اخوانهم من دولة الكويت، أمثال: شادي الخليج، محمد المسباح، الملحن القدير أنور عبدالله (الذي لم ألتقه منذ يوم تحرير الكويت في عام 1991)، كما حظيَ وجود الشاعر الرقيق بدر بورسلي باهتمام الجميع، وكان للتواجد الفني العُماني أيضاً معانٍ كثيرة. هذا النجاح يُتيح الفُرصَ لتبادل الخِبرات، وتعزيز العلاقات بين شعوب الخليج، لأن الفنَّ، على الدوام، ليس عاملَ شقاقٍ أو بُغض، قدْر ما هو طريقُ محبّةٍ وتفاهمٍ ورُقيّ. الفنُّ الغنائي رسالةُ محبَّة، وانفتاحٌ على الآخر، ولا عجب أن يلتقي في تلك الأمسية على المسرح الوطني، الفنان القطري، مع الفنان العراقي، والفنان التركي، والفنانة الكورية، في لوحة محبَّةٍ راقيةٍ ومُعبّرةٍ عن أهداف الفن النبيل. وإذا ما كانت هنالك أمنية، بعد نجاح تلك الليلة، فإننا نتمنى على وزارة الرياضة والثقافة، وعلى مُنظمي الليلة، أن تتواصل هذه الليالي الفنيّة، وتتم جدولتها بشَكلٍ مؤسسي. ذلك أن الجمهور الذي ملأ المسرح (علمتُ بأن تذاكر الحفل نفدت كلها)، ما زال مُتعطشاً للمزيد من الإبداعات القطرية والعربية والعالمية. الأمةُ العربية، أمّةٌ بكَت كثيراً، وطوّحت بها النائباتُ كثيراً، حتى لفنا الحزنُ من فراقِ الأحبَّة، وعنادِ الأحبَّة، وأيضاً غدرِ الأحبَّة، ولا بدَّ لنا من الفرح، ونشر الأمل، والالتفاف حول قِيَم الخير والحُبّ والجمال، ولا مُعَبّر عن هذه القيم إلّا الأغنية الراقية.