31 أكتوبر 2025

تسجيل

أنا لن أعود... للمدرسة

16 أغسطس 2023

أذكر أنني قلت لأبي يومًا ما «أنا لن أعود للمدرسة»، وكنت وقتها في الصف الثالث الابتدائي، كنت منزعجًا جدًا من بيئة المدرسة التي كانت وما تزال تمثل تحديا كبيرا للطفل مع بداية تواصله بالعالم الخارجي وانتقاله من جو الأسرة التي تربى فيها على قيم وأسلوب حياة معين ليجد نفسه في وسط مختلف تماما، وليكتشف أن القيم والمعايير والسلوك التي تعلمها وشب عليها ليست بالضرورة أن تكون مشتركة بينه وبين زملائه في المدرسة. أذكر في ذلك اليوم أن والدي تصرف معي بحكمةٍ بالغة كما هو معهود عنه في مواقف كثيرة، سألني بدايةً عن السبب في عدم رغبتي في مواصلة الدراسة، فأخبرته بكل براءة أن السبب هو كثرة المشاجرة مع بعض الطلاب الأكبر مني سنًا، فسألني ولماذا المشاجرة؟، قلت إن أولئك الطلاب غير منضبطين ويقومون بأعمال تخريبية في الفصل وعندما يسألني المعلم عن المتسبب في هذا الشيء أو ذاك أخبره مباشرة بالفاعل فأنا لا أستطيع أن أكذب إذا كنت أعلم الفاعل وهذا ما يثير غضب الطلاب عليّ، فأنا أمام تحد كبير، إما أن أكذب على المعلم، أو أقول الحق وأتعرض للمشاكل، لذلك لا أريد المدرسة. كانت ردة فعل والدي غير متوقعة، قال لي: طيب، إذا خرجت من المدرسة ماذا ستفعل؟ قلت له سأفتح دكانًا وأعمل في التجارة، فقال هذا كلام جميل، ماذا لو جاء عمك للدكان وطلب منك بضاعة على أن يدفع المبلغ آخر الشهر هل ستعطيه؟ قلت نعم، قال وماذا لو جاء جارنا فلان وطلب منك بضاعة على أن يدفع هو أيضًا آخر الشهر هل ستعطيه؟ قلت بلا شك، وراح يكرر علي نفس السؤال وأنا أقول نعم، ثم ابتسم وقال وهو يضع يده الحنونة على كتفي: يا بني كيف ستحاسب كل هؤلاء آخر الشهر وأنت لا تعرف الحساب؟، سكت لبرهة وأنا مشتت الفكر، ثم قلت: سأعود للمدرسة من الغد. تلك هي ذكريات الماضي القريب الذي كان فيه للأسرة نصيب الأسد في التربية والنصح والتوجيه، لم يحمل فيه معظم الآباء الشهادة الثانوية ولكنهم حملوا في صدورهم الحكمة والبصيرة، لم تتح لمعظمهم فرص التعليم كما هي متوافرة الآن إلا أنهم أتاحوا كل الفرص لأبنائهم وبذلوا ما في وسعهم ليصنعوا رجالًا على قدرٍ من المسؤولية. وها أنا ذا اليوم أستقبل حفيدتي بسعادةٍ بعد أن أنهت عامها الدراسي الأول بتفوق، أنظر إليها وكأنني أنظر لجيلٍ توافرت له من الإمكانات والفرص ما لم تتوافر للأجيال السابقة، إلا أن التحديات التي يواجهها اليوم الآباء والأمهات في خضم هذه الطفرة المعلوماتية وهذا السيل من التطبيقات والمحتويات التي طغى غثها على سمينها، وتلك الأفكار الشاذة التي دست في كل فن كما يدس السم في العسل، والثقافات المنحرفة التي تزاحم الفطرة السليمة في برامجها وأطروحاتها، تلك التحديات أكبر وأعقد بكثير من المشاجرات التي قررت على إثرها ترك المدرسة يومًا ما. أما اليوم فأتمنى أن أعود للمدرسة من جديد ولسان حالي يقول كما قال الشاعر المبدع كريم العراقي: آهِ كَمْ أَشتاقُ أَيامَ أَبيْ... رُغمَ ما فيها من الهمِّ وطولِ التعبِ