10 سبتمبر 2025
تسجيل﴿لَقَدْ كانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الألْبابِ﴾.. قصص خلّدت أصحابها في صفحات التاريخ، ومدّت من خلَفَهم بدروس تستحق التبصّر! هكذا يعبّر مؤلف كتاب (منارات: قصص إنسانية صارت لهم تاريخاً ولنا دروساً) في مقدمته، فليس التاريخ سوى أخبار الأولين التي تُضرب فيها الأمثال، وجملة من حقائق وعلوم وأخبار، كما يُخبر ابن خلدون.. وليست هي معين للترف الفكري بل مدعاة لاستلهام العبر وانتهاج مساراتها. لذا، يبدع المؤلف (د.عبدالله العمادي) في استنباط المُثل واستخلاص الدروس وهو يستقرئ السيرة النبوية، وقصص الأنبياء، وأخبار التابعين، وأحوال الملوك والطغاة، لأجل الوقوف على تلك النقاط المضيئة التي من شأنها إنارة شعلة الحياة للإنسان، الذي بات أحوج ما يكون للفتة عن حياة الدعة، ولحكمة تعزز ذاته، ولقدوة يجعلها نصب عينيه. عليه، ينتقي في هذه المجموعة القصصية الصادرة عن (بلاتينيوم بوك للنشر والتوزيع) جوانب من قصص التاريخ ترتجي المتعة والفائدة، متجاوزة السرد التفصيلي لأحداثها. يستشعر المؤلف في (رسولنا والتخطيط الاستراتيجي) خطة الهجرة العشرية التكتيكية التي رسمها النبي ﷺ بينما كان لا يزال بين ظهراني قريش، ما يجعل من مقادير الأمور لا تسير على البركة وحسب كما يظن البعض، أو عن طريق الوحي المباشر، إنما بتخطيط استراتيجي مسبق واجتهاد بشري محكم، كما ظهر في حثّ صحابته على الهجرة إلى يثرب، وإبرام الاتفاقيات مع الأنصار، وإرسال دفعة من أصحابه نحو الحبشة كفريق احتياطي حال تعرّض الفريق الأساسي في مكة للأذى، وفي تكليف أبي بكر الصديق تجهيز راحلتين مسبقاً، وتوصية علي بن أبي طالب رد الأمانات لأصحابها الذين أودعوها لديه، وفي استئجار مرشد من خارج مكة على دراية بدروب الصحراء ولا شأن له بخلاف قريش، وتكليف أسماء ابنة الصديق بشؤون التموين اليومي، وأخيها عبدالله بتتبع أخبار مكة ونقلها لهما في المساء. يعلق المؤلف قائلاً: «وهكذا كانت الأمور تجري ضمن سيناريو محكم تم التخطيط له منذ أشهر، حتى وصوله ﷺ وصاحبه رضي الله عنه إلى مقصدهما، وبدء مرحلة جديدة في الدعوة». أما عن القيم الأخلاقية التي تأتي وفق موقف عابر فتقلب حال إنسان ما، يحدّث الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي في (رجال أدين لهم بحياتي) عن نقطة تحوّله إلى الإسلام التي لم تواته بعد لقاء دعاة أو قراءة كتاب، بل عبر جنود بسطاء تساموا بأخلاقهم! فعندما تم اعتقاله وخمسمائة من المناضلين ضد ألمانيا النازية وتهجيرهم إلى منطقة في جنوب الجزائر، أثاروا عصياناً وهم محاطون بالجنود الجزائريين المسلحين، ما حدا بقائدهم الفرنسي إصدار أوامره إطلاق النار عليهم والتي قوبلت بالرفض، وقد برر أحدهم موقفهم وقد هُددوا بالسياط: «إن مما ينافي شرف محارب من الجنوب، أن يطلق رجل مسلح النار على رجل أعزل». وعلى الرغم من أن الطاعة العمياء هي أصل العمل العسكري، إلا أن أولئك الجنود البسطاء رفضوا أمراً يمس أخلاق الرجال.. وكان موقفاً مؤثراً وعلامة فارقة يقول عنها الفيلسوف كأول احتكاك له بالإسلام: «كان احتكاكاً برجال! رجال أدين لهم بحياتي». وفي سابقة من نوعها، يظهر في عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز (مجتمع بلا فقراء). فبحسب علوم الإدارة الحديثة، يُعد هذا الخليفة أكفأ اقتصادي عرفته الأمة الإسلامية، حيث لم يكن للفقر وجود في عهده، ما أوقع العاملين على أمر الزكاة في حيرة بخصوص ما فاض ولم يجدوا له مصرفاً، حتى رفعوه إليه، فأمر بتزويج الشباب، ثم قضاء ديون المسلمين والنصارى واليهود، ثم النفقة على أهل العلم، حتى إذا لا يزال فائضاً قال: « اشتروا به قمحاً وانثروه على رؤوس الجبال لكيلا يقال جاع طير». وبينما يُروى عن القائد التتري تيمورلنك قُبح منظره وامتداح وزيره قوته وجاهه كتعويض، وبصرف النظر عن حقيقة الرواية من عدمها، فإن ظاهرة التملّق بما يصحبها من مطامع مادية شائعة، ولقد كان النبي ﷺ يمتدح بعض صحابته في الموضع الذي يستوجب المدح، كما قال يوماً لعمر: «ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك»، وذلك لعلمه المسبق بأنه لن يتسبب في اغترارهم بأنفسهم. رغم هذا فقد كان ﷺ حريصاً على ألا يشيع المدح في أمته لما له من مردود ليس بالضرورة محموداً على المادح والممدوح، حيث ورد عنه: «إياكم والتمادح.. فإنه الذبح». يقول المؤلف في (اتقوا المدح فإنه الذبح): «فأما وجه الخطر على المادح، أنه حين يجد قبولاً من الممدوح لمديحه، وإن كان مبالغاً فيه، فقد يتجرأ بعد قليل ليواصل في هذا العمل وخاصة إن كان من ورائه نفع ماديّ ينتظره، فيدخل من حيث لا يدري أو يدري، عالم الكذب والنفاق والخداع وغمط الحق. وأما الممدوح فإن وجه الخطورة عنده متمثل في احتمالية وقوعه في فتنة الشعور بالزهو والفخر والترفع». ختاماً، لا بد للقارئ بعد أن يفيق من سحر تلك النفحات الربانية، أن ينتهجها فكراً وسلوكاً، وأن يحدّث عمّا أمكنه منها ولو بآية، مصداقاً لقوله تعالى ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.