11 سبتمبر 2025

تسجيل

فلسطين وابن خلدون

16 مارس 2024

يحمل مشروع ابن خلدون فرضية نقدية تقول بأهمية وعي التاريخ، وبضرورة معرفة الاخطاء التي احاطت به، لأن الجهل بالتاريخ يقود الى الجهل بالوجود، والتخلي عن الحق والاصل والقدرة على معرفة طبائع الناس في وجودهم، وعبر ادوارهم في صناعة الاحداث. هذا التوصيف ليس بعيدا عن الفلسطيني الذي يدرك أن فكرة وجوده رهينة بالتاريخ، وبذاكرة العمران، ورواية اخباره واحداثه، لأن هذا الرهان هو الذي يحدد ملامح العلاقة بين الوجود والاجتماع، وسمات الصورة الذهنية لسيرة الفلسطيني في المكان المحتل، وفي يوميات الهوية العميقة. الاحتلال في فلسطين والعدوان في غزة يدفعان هذا الفلسطيني الى ممارسة حق الدفاع عن تاريخه وهويته وسيرته، عبر الدفاع عن الارض، وعبر مواجهة الفوضى التي يعمل جيش الاحتلال الاسرائيلي على إحداثها، من خلال تخريب الامكنة بالعدوان، ومن خلال قتل الناس بالطائرات، وبهدف فاضح ومُفارق يقوم على دفعهم للترحال عن الارض، كمقدمة للخروج عن الاجتماع والتاريخ. دفاع ابن خلدون عن الاجتماع العربي والاسلامي في «مقدمته» هو نظير ما يعمله الفلسطيني اليوم، حيث البقاء في الارض كنوعٍ من العصاب لها، وحيث المواجهة النقدية الرافضة لسياسة الطرد، وعبر التحلي بدرجة عالية من الشجاعة والانضباط، والقبول بالشهادة، بمواجهة آلة الحرب الجهنمية، والثبات إزاء سياسات المحو والاستيلاء على الارض، كتسويغ «جيو انثربولوجي» للاستيلاء على الذاكرة والتاريخ واللغة والهوية والمعنى، وعلى كل مصادر صناعة الحكايات والاخبار والعبر، وباتجاه قصدي يجعل من ارهاب الاستيطان لعبة في استعراض القوة، وفي تكريس «المركزية الاسرائيلية» كخطاب موازٍ لـ «المركزية الغربية» التي اسهمت في صناعة كثير من السرديات القاتلة، كنظير لـ»الهويات القاتلة» بتعبير امين معلوف الذي كان يدرك خطورة السيطرة على التاريخ، أي السيطرة على «جهاز» صناعة الاخبار والمرويات والحكايات، فالجغرافيا خارج هذا الصناعة تبدو قاحلة وجرداء، وخالية من القيمة والاشباع الوجودي والرمزي، حيث يفقد عندها التاريخ سحره، وشطارة رواته الذين يصرون على أن يحفظوا خزائن الكلام.