10 سبتمبر 2025

تسجيل

سميرة عبيد.. الحفر في شعرية الغائب

03 أبريل 2024

قد تكون شعرية البوح من أكثر العلامات إثارةً في قصائد الشاعرة القطرية سميرة عبيد، بوصفها تمثيلا لـ»القصيدة الشخصية» التي تتكثف فيها هواجس الذات الرائية، إذ تتلمّس من خلالها سيمياء الغائب في اللغة والمعنى، فتحتفي بإيحاءاته وكأنها تحتفي باليومي والحسي والتأملي، بحثا عن ذلك الغائب المتواري خلف الاستعارات التي تهجس باستعادته، عبر استغواء أسئلة الوجود، الأسئلة التي تُحرّض على الكشف والرؤية، وعلى استجلاء الغامض، فتتحول الاستعارات إلى أقنعة للذات، ترى من خلالها عالمها الماكث في اللغة، والمشغول بهواجس البوح والاعتراف، كاشفةً عن قلقها، وعن خوفها إزاء ما يصنعه الغياب، بوصفه استعارة كبرى للمحو والفقد والموت.. في كتابها الشعري «تصحو في الغياب» الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر/ القاهرة 2023 تحضر ثنائية الصوت والصمت كجزء من شعرية ذلك البوح، فالصمت ليس ضدا للصوت، بل هو تمثيلٌ لهواجسها في البحث عن الغائب، حيث يتدفق صوتها الداخلي، حاملا معه تورية صخبها العميق والمكبوت، صخب الأنثى وهي تبحث عن المعنى/ الوجود/ الجسد. وحتى مفردات «الوصايا» و»الوصية» رغم طابعها المثيولوجي، لكنها تحضر بوصفها «شهادة» أو رغبة في مواجهة الغياب عبر ترميز إحالاته للخريف والتجاعيد والريح والسفر والمجهول.. عند عتبة الكتاب تطلّ الغريبة «المُهدَى إليها»، وهو قناع للشاعرة، توحي عبره بشعرية البحث/ الكشف، حيث تمارس الصحو لكي تفترس العالم عبر اللغة، فتجعل ترويض اللغة رهينا بما تؤثثه من ذلك الصحو، الذي هو يقظتها، أو شعفها برؤيا الوجود، وباستجلاء ما يمكن أن يتبدى من الغائب الماكث باللغة أكثر من مكوثه في الحياة.. الاستهلالات الثلاثة- المتنبي، ادونيس، باشلار- تكشف عن قلق الشاعرة، عن توقها لما يشبه «الصيانة» المتعالية، حيث تحضر قوة النص، لتبثّ شحنة عالية من الترياق الاستعاري في قصائدها، وربما تُحفّزها على إيقاظ شعرية البحث، وهي تستمد طاقتها الإشارية من شعرية الغائب، فالبحث يتبدى بوصفه معادلا رمزيا للقلق، ليبدو وكأنه تواصلٌ في مواجهة «المستحيل» حيث استجلاء شهوة الغائب، الغائر في أبّهة اللغة، فينطلق صوتها الداخلي، متأملا، هائجا، رافضا «ضوء الصمت» متدفقا بانثيالات «حنين شائك، يروّض رعاة النجوم خلسة مني» وهي اشارات يتبادل فيه الدال المباشر بالدال الباطني، فيكون البوح شغفا بالغائب، واعترافا باستدعاء حمولاته الرمزية والإشباعية.. لا يعني بوح الشاعرة إحالة مباشرة إلى «القصيدة التأملية» بقدر ما يعني الإحالة إلى فضاءات القصيدة الشخصية، التي يحتشد فيها الصوت الخفيض والعميق، والغائر بحساسية الوحدة، تلك التي تجعلها أكثر شغفا بتزاحم أفعال الحركة، حيث الاندفاع إلى ما يُحرّك مجساتها، وهي تتقصى رؤيتها الموزعة بين لحظة التجلي ولحظة الغيب، فتعمد إلى خرق الصمت، عبر مفارقة الصوت، بوصفه بوحا للذات التي تكشف عن قلقها/ حلمها. لي حلمٌ على الطريق كنت أراه يقترب بعيدا بعيدا.. استدعاء الحلم يعمل بوصفه تمثيلا للقلق، ولاستغوار ما تهجس به اللغة من إشارات سيميائية للذات التي تفكّر عبر «صمت صاخب» فتجعل من هذا الحلم شفرتها في استدعاءٍ نظيرٍ للغائب، الذي يوسّع من شعرية الانتظار، لما» يمنحني سحر الطريق» الذات المفكرة/ الرائية تقترح في هذا السياق قراءة بصرية، لاستجلاء ذلك الغائب عبر موحيات تجعل من التفاصيل الصغيرة، وكأنها شحنات فائرة بحسيتها، باغواءات ما تصنعه لحظات عشق/ تيتّم بـ»شجرة الصبار» لها دالتها على التحمّل/ الصبر، والتعويض، حيث «تهرول الأحزان» عبر الصخب الداخلي، لتنأى بها بعيدا عن « ضوئك الشاحب ايها الصمت» الغياب بوصفه رائياً.. تتحول ثيمة الغياب إلى موجّه، ينطوي على استغراقات، تدفع باتجاه فكّ شفرات ما يضمره ذلك الغياب، إذ تستدعي عبره صوتها العميق، مثلما تستدعي له استعارتها الشعرية، وكأنها تعمد إلى المواءمة ما بين اللغة بوصفها الاستعاري، وبين قلق الذات بوصفها الوجودي، كاشفة عمّا تمور به من هواجس، يكون الغياب هو قرينها التمثيلي، يرقبها، يترصدها، يشاطرها التفاصيل اليومية، وسيرة الحكاية، وشهوة الخلاص/ التطهير/ السفر. «الغياب الذي يراقبني كل مساء يترصدني، وأنا أودع شهرزاد في سفينة نوح» في قصيدة «جرس الحياة» يحضر الصوت الداخلي، كتعويض استعاري عن الرهاب/ الضجيج الخارجي، تتفجر عبره النقائض كمقابل لشهوة الحياة عبر الحلم، حيث تضعنا الشاعرة إزاء انثيالات يشتبك فيها الحسي والنفسي، لكنها ليست بعيدة عن ماتراه الأنثى التي تسكنها، وهي تلامس فكرة الحياة عبر استحضار «اليد التي تلوّح» وتتلمس الأشياء العابرة، وكأنها تجعل من هذه الحياة في لحظة مواجهة مع الغياب، كتوازٍ وجودي ينبجسُ مع السؤال الفلسفي « ما الحياة» توحي بنى القصائد المقطعية بدوال نفسية، وبمشهدية تترابط في تمثلات تؤدي وظائفها عبر «مونودراما» تكون فيها صوت الشاعرة هي «الصوت الوحيد» الذي يتشظى إلى أصوات موازية، تتمثّل فيها الغائب المُستدعى، أو المُنادي، بوصفه القرين الذي يؤدي وظيفة المرآة، أو الذات الأخرى التي تنسل اليها من الماضي، لكنها سرعان ما تتمرد عليها.. أعرفها ولا تعرفني، الغريبة لها ذاكرة الخيول الخشبية جاءت من آهات السنين من شظايا الماء لا تملك سوى الرحلة تطمئن إلى شبّاك الصور المتقطعة أمام المرآة..