11 سبتمبر 2025

تسجيل

الآخر ومسؤولية الأنا

10 أبريل 2024

ثمة مَنْ ينظر للآخر بوصفهِ الغريب، أو المختلف، وثمة مَنْ ينظر له بوصفه الشريك والقرين والضروري، وما بين الاثنين ينفتح جدلٌ واسعٌ، يشتبك فيه السياسي والانثربولوجي والهوياتي واللساني والتاريخي، وكأن في الأمر التباسا يتطلبُ فكَّ مغاليقه، وإعادة توصيف مفهوم ذلك الآخر، رغم أن الدراسات الثقافية الحديثة أعطته هامشا واسعا، وجعلته مجالا للدرس والتعرّف، والتمثّل في سياق التحولات الكبرى التي نعيش صدماتها العلومية والمعرفية والخوارزمية. قد يكون الحديث عن الآخر السياسي والأيديولوجي مُستفِزا للذاكرة، لأنه يدخل حساسيات الهيمنة والاستشراق والهوية الكبرى، لكني أجد أن الحديث عن الآخر الثقافي هو الأكثر إثارة، لأنه يفتح الباب على مرجعيات تخصّ توصيف الآخر في إطار علاقات الجندر والمصلحة والتواصل داخل النظام العالمي الحديث، وفي الدولة الحديثة، إذ تستدعي هذه المنظومات مراجعة دائبة لعقود التعايش قانونيا واجتماعيا، وعلى أسس تكفل القبولَ بـ « الأنا والآخر» تحت صيغٍ تضمنها العلاقات بين الدول، وفي سياق تبادل المنافع الثقافية والمصالح المشتركة والاتفاقيات والمعاهدات، بوصفها سياقات للاجتماع والمشاركة والانتماء والحوار، وبما يقلل من رهاب ذاكرة الخوف المثيولوجية، لأن العالم لم تعد تحكمه الأشباح، بل تحكمه نظم وقوانين وآليات حكم رشيد، تعمل على أنسنة المكان، وعلى أنسنة المشاركة فيه، وبما يعكس طبيعة النظام العالمي وتطوراته الكبرى، لا سيما ما يخصّ مواجهة عقد «الهويات القاتلة والمقتولة» وأنموذج «الكائن الفائق» والمركزيات الكبرى، إذ يكون نجاح تلك التطورات قرينا بالسياسات الفاعلة، والثقافات الفاعلة، وكلاهما يجعل من حُسن إدارة التنوع والتعدد هو الرهان على تنمية فكرة الاجتماع الإنساني، والحدّ من غلواء التطرف والكراهية والتعصب، وإعادة توصيف النظر إلى الآخر من خلال الوعي بمسؤولية المعيش الآمن، وحمايته من أخطار الفكر الأحادي. لكن حيازة هذا الوعي ليست سهلة دون وجود إرادات سياسية وثقافية تعمل على تأطيره وتنظيمه وتحويله إلى قوة فاعلة، تحمي الحقوق والخصوصيات، بما فيها خصوصيات الهوية، والوطن واللغة والرأي والتقاليد والدين، وباتجاه يقوم على توسيع المعرفة بها، عبر تعميق «دراسة السياسات» التي تُسهم البرامج والمشاريع التي تكفل تنمية الوعي بالعقد الاجتماعي والعقد الثقافي بوصفهما عقدين أخلاقيين يؤكدان أطروحة بول ريكور الفلسفية حول «الذات عينها كآخر».