14 أكتوبر 2025
تسجيلوقفت في تمام الساعة السادسة والنصف صباحاً عند ذلك المصعد الصغير، أنتظر قدومه كمن ينتظر مسافراً قادماً على جمل من مكان بعيد، فمن شدة التعب والإرهاق شعرت بأني كنت أنتعل الأرصفة إلى أن وصلت إلى جهة عملي، ظللت أتأمل أرقام المصعد الحمراء وهي تضيء بين الفينة والفينة متحركة بتحرك المصعد من طابق إلى آخر . فُتح ذلك المصعد الصغير الذي يحتوي على ثلاثة عشر زراً، وقد غطته المرايا، وعلى جوانب تلك المرايا خشب فخم يفصل ما بين المرآة والأخرى، وفي أعلى السقف هناك “ لمبة محروقة “ مرت عليها سنوات وما زالت محروقة . دخلت المصعد وبه ثلاثة أشخاص متفاوتي الهم وأنا رابعتهم، أحمل بين يدي جهاز لاب توب أكتب به آخر مغامراتي … فكثيراً ما أضع أصابعي على لوحة المفاتيح دون أن أكتب كلمة واحدة، أشعر أحياناً بالنسيان الذي يعتري روحي، بل الضيق عندما لا أجد ما أكتبه، لطالما كنت أنا والكتابة كياناً واحداً، أشعر بها وهي تشعر بي، نعيش تحت قلم واحد ويساورنا الحنين معاً لرائحة الورق. لم أجد صديقاً كالكتابة … حروف تحيط بي … تُمسك بيدي أينما رحلت … فهي لم تخني وأنا لم أخنها ،،، ظللت أتأمل لوهلة بعض الوجوه المختلفة تقف وسط هذا المصعد، أحدهم قد اعتراه النعاس، فلا يعلم وجهته الحقيقية سوى أنه يحضر إلى عمله من أجل قراءة بعض الجرائد، وتتبع سطورها وقراءة كل تفاصيلها والتركيز على الصور التي تتضمنها تلك الجرائد .. لا يعرف سوى احتساء فنجان من القهوة المرة وهو يتنقل ما بين الصفحة والأخرى .. ليس لديه عمل سوى ذلك … فهو يحمل طاقة كبرى ولكنها غير مُفعلة بفعل فاعل … فقد تزاحم من لا يستحق عند طابور المناصب … فحظي بها الآخرون وهو بقي على حاله يُزاحم نفسه بنفسه عندما يجد على طاولته مجموعة من الجرائد ،، انتظر لوهلة وها هو يصل إلى طابقه … فسار مسرعاً وتسابقه خطواته ليلاحق جرائد اليوم ويطلب قهوته المفضلة ... بينما أنا في ذلك المصعد …. تذكرت حياتي المتنقلة ما بين كتاب وآخر … فأنسى في أي صفحة تركت روحي، فأبحث عنها طويلاً ثم أجدها مُعلقة بين سطور مرصعة بكلمات الأنين والنسيان، أحياناً وأنا أقرأ على شرفة منزلي تمر الساعات وإذا بي أغرق في أعماق الكتاب، إلى أن أدرك بأنه لم يعد أحداً يسمعني فينقذني ويعيدني إلى واقعي الحقيقي . عامل يقف بجانبي .. قلبه ينبض بسرعة خوفاً من المسؤول … يتصبب عرقاً … حنجرته جفت … نشيج بداخله …يُحدّق في الأرض خشية أن يُخطئ عندما يأمره المسؤول بفعل أمرٍ ما … يساورهالرعب عندما يتذكر صرخته … خاصةً عندما يقول له : “ يا غبي ! “، لا يستطيعالعودة إلى وطنه في الوقت الراهن فصورة أطفاله الثلاثة لا تُفارق خياله … لقمة عيش … ألفين ريال في الهند تسد الجوع … وبدون تلك الصرخة الحنونة المزلزلةلعروق جسده النحيل قد تحرمه من ذلك المبلغ الزهيد ! وأجد مشكلة يا رفيق … والمشكلة الكبرى عندما يتم نسيان ما قاله سيدنا عمر بنالخطاب رضي الله عنه حينما قال حروفاً تزن قنطارا من ذهب: “ متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً “ … ولذلك لا تحزن يا رفيق وإن كان ذلك مشكلة … لأن المشكلة الحقيقية تكمن عندما لا يسمع همك أحد لأنك فقير … لأنك مسكين … لأنك لست بصاحب منصب حتى تُحترم .. أو تُرحم من قبل البعض … خرج العامل من المصعد دون أن أنتبه في أي طابق نزل … وكل ما عرفته أنه يعمل عند مسؤول قلبه حجر … وأخيراً بقيت في ذلك المصعد برفقة إحداهن وهي تنظر إلي بنظرة غضب لا سلام ولا حديث يُذكر مع ارتباك ملامحها بشدة وسطوة عينيها الناتئة، مجرد همسات تُسمع “ حسبي الله ونعم الوكيل“ تتردد هذه الجملة على شفاهها… لقد أثرت ذات يوم غضبها وغيظها .. بعد أن خطت يداي كلمات في إحدى المقالات سممت جسدها … حكيت حكايات قد أيقظتها من غفلتها … فحركت ما هو ساكن .. فيُخيل إليّ أني نثرت شيئاً من الأحجار متفاوتة الحجم في الماء العكر … متفاوتة كتفاوت الكلمات والفقرات التي كتبتها فاستشاطت ساخطةً .. وظنّت أن ما كتبته موجه حرفياً لها … إلى أن آمنت بالمثل القائل: “ اللي على راسه بطحة يحسس عليها “ … وذهبت ذات يوم إلى أحدهم تجادله فيما كتبت وتشتكي إليه…. وانتحبت باكيةً من فعلتي وظلمي وجوري لها عندما قلت كلمة حق وسط زمن جائر … فقول الحق هو ظلم من وجهة نظرها … وفي نهاية الأمر وُضعت في موضع الخطأ وهي في موضع الصواب … فتهانينا يا عزيزتي فقد نجحتي في “ العيارة “ بامتياز … واعذريني ثم اعذريني فقد تحملت وزراً لم أرتكبه وتم إنصافك بلؤمك …. بعدها وصلت إلى طابقها الموقر صاحبة المنصب والجاه “ بنت الحمولة “، تسير ببطء شديد وتجرُ خلفها ذيلها. أخيراً حان دوري للوصول إلى الطابق الذي يقطن فيه مكتبي … قلمي الآن مُسدل للقاع فليس لدي سوى تأمل شاشة الكمبيوتر من الصباح الباكر وحتى الثانية ظهراً دون أن أحرك ساكناً، وقلبي يُرتل آيات الصبر والسكينة بعد أن ابتلاني الله بمدير جائر ليس لديه من يردعه ووزير طيب ونقاوة قلبه قد تأخذنا في رحلة حول العالم ! مجموعة ورق متناثرة على طاولتي … منها أوراق متعلقة بعملي تتجاذبها وريقات صغيرة نثر عليها قلمي بقايا حروفي … وورقة أخرى وجدتها جانباً مكتوب عليها كلمات للراحل غازي القصيبي رحمه الله مضمونها : “ لا جدوى من الحوار مع أصحاب نظرية المؤامرة … أو قصيدة النثر “ . مشهد من وحي الخيال … قامت بتأليفه حروفي الثائرة المشاكسة المتهورة … ومن إخراج أوراقي التي تطايرت في مهب الريح …