16 سبتمبر 2025
تسجيلتُستخدم عبارة "دس السم بالعسل" بشكل متكرر للإشارة إلى المعلومات أو القيم أو المفاهيم المرفوضة وغير المقبولة في المجتمع، والتي يتم تغليفها وإخفاؤها في سياق مقبول أخلاقياً، وتستخدم تلك الآلية لتمرير مفاهيم وأفكار لا تُقبل في صورتها الحقيقية والواضحة، فلا يُفصح عنها بل توارى وتغلف بغلاف براق ليتم تمريرها كما "يدس السم في العسل"، بغية تحقيق التأثير المطلوب عبر ضخ تلك "السموم" في الوعي بأسلوب لطيف وهادئ، لنجد أنفسنا فجأة وقد استسغنا وتقبلنا هذا الأمر أو ذاك دون أن ننتبه. هناك مصطلح يدعى "BOILING FROG" أو الضفدع المغلي، ويعكس فرضية - ثبت خطؤها علمياً- ولكنها صحيحة مجازياً، مفادها أن الضفدع عندما يوضع في الماء المغلي سيقفز مباشرة ليقينه بالخطر الذي يحدق به، في حين أنه إذا وضع في ماء معتدل الحرارة ثم رفعت حرارته تدريجياً فلن يشعر الضفدع بذلك إلى أن "يطبخ تماماً". في الواقع فإن الاستجابة التوجيهية التي تثيرها المحفزات من حولنا تبدأ في التلاشي مع تكرار تلك المحفزات، وهو أمر طبيعي لدى الإنسان وباقي الكائنات الحية، كما أن التغييرات التي تطرأ على المجتمع سلبية كانت أم إيجابية تتم في الغالب بالتدرج، فالإنسان بطبعه يرفض ما يصدم ويخالف معتقداته وأفكاره، وأحياناً لابد من التدرج في إحداث التغيير المرغوب، ولكن ما يثير القلق هو استغلال تلك الآليات الطبيعية لدى البشر وتوظيفها لبث الأفكار المسمومة وممارسة التغيير التدريجي بطريقة موجهة ومدروسة، الأمر الذي يقودنا في النهاية إلى ما لا تحمد عقباه. مؤخراً، ألغيت اشتراكي في إحدى شبكات الترفيه المنزلي التلفزيوني المعروفة، وعللت ذلك في الخانة المخصصة لذكر السبب، بأن الشبكة تروّج بشكل مبالغ فيه وفج وممجوج للشذوذ الجنسي أو كما يسمى ويراد له أن يرسخ "المثلية الجنسية"، وإقحام موضوعات الشذوذ في كل شاردة وواردة من مسلسلات وأفلام ووثائقيات تنتجها أو تعرضها تلك الشبكة، ما أشعرني بالغثيان. تبين لي بعد ذلك أن ملاحظتي تلك لم تكن متفردة، فمن خلال البحث عبر الإنترنت اتضح لي أن شريحة كبيرة من المشاهدين سجلت تلك الملاحظات، سواءً في عالمنا العربي أو في أقطار أخرى من العالم، وهو ما سبب معارضة وانتقاداً شديدين بجانب مطالبات بالمقاطعة. تلك القضية قادتني إلى أمر آخر جد خطير، وهو أن القيم المخلّة التي تسوّق للمجتمع وبعيداً عن أهدافها الإستراتيجية، تقوم باستغلال جانب متأصل في السلوك البشري من كون الإنسان يسعى لطلب اللذة ويتجنب الألم، لذلك فإن تمرير القيم المرفوضة والشذوذ السلوكي يتم عبر مزجها بوسائل المتعة كما يمزج السم في العسل، فنستطعم العسل وندمن عليه ولا نجد في أنفسنا رغبة في التوقف عن تناوله، وهو بالضبط ما يحصل الآن مع وسائل الترفيه من حولنا، فبالرغم من معرفتنا وملاحظتنا للرسائل التي تبث عبر تلك الوسائل من ألعاب إلكترونية ومسلسلات وأفلام وبرامج للأطفال، فإننا لا نريد التوقف عن متابعتها، لأنها ممتعة ومسلية، غافلين أو متغافلين عن التأثير الكبير، ليس علينا فقط، بل على أطفالنا عبر الرسائل التي يستقبلونها والمشاهد التي يعتادون عليها، ثم نسأل بعد حين باستغراب عن أسباب الانحرافات السلوكية لدى المراهقين ونبحث عن علاج لها. الأمر الآخر الذي لفت انتباهي، هو نجاح تلك المساعي لتأصيل وترسيخ ما يريدونه، وهو قضية الشذوذ- المثلية تجاوزاً-، فبرغم رفض تلك القيم في غالبية المجتمعات، فإنه يكفيهم ما حققوه بترسيخ مفردة (المثلية) على ألسنتنا، وهي مفردة خطيرة وتنطوي على موافقة ضمنية للمبدأ، فعلى سبيل المثال لو أنك عبرت عن رفضك للمثلية، إذا لا مشكلة، لا يهم أن كنت ترفض أو توافق المهم الإقرار بوجود "مثلية جنسية"، وهو الهدف من وراء تلك المساعي أن يكون هناك مثليو الجنس ومغايرو الجنس، وافقت أم رفضت لا بأس! فالهدف تحقق، وكأنك تقول مجازاً "أنا لا أحب النوم في الحمام، ولكني أقر بحق الآخر بوضع رأسه في المرحاض لينام وهو أمر طبيعي!". لم تتوقف مساعي الشبكة المذكورة لترويج ما أشرنا إليه من سلوكيات شاذة وقيم دخيلة، بل واصلت السعي لترويج مفاهيم وقيم جنسية أخرى. مؤخراً واجهت الشبكة اعتراضاً شديداً من شتى بقاع الأرض، لأنها ذهبت إلى أبعد من مسألة الشذوذ الجنسي، عبر الترويج لما يسمى "بالبيدوفيليا" او "الغلمانية" و"اشتهاء الأطفال"، في الحقيقة لم أصدق تلك المزاعم في بادئ الأمر، ليس لثقتي بالشبكة، بل لأنني استبعدت أن تصل بها الجرأة إلى ذلك الحد، ولكن، بعد بحث حول الموضوع، وجدت ما وقع عليّ كالصاعقة، إذ تبين لي أن هناك حراكاً من قبل منظمات ومؤسسات مجتمع مدني ونشطاء على مستوى دول حول العالم، للترويج لمثل تلك المفاهيم وتبرير ذلك السلوك المشين، كما أن هناك محاولة في عدد من الدول - وقد حققت مرادها في بعض تلك الدول- لخفض سن الطفولة إلى ما دون 15 عاماً بدلاً من 18، والمحاولات مستمرة لاختزال الطفولة في السنوات العشر الأولى!، ولنا أن نتخيل ما يستتبع ذلك من مطالبات أخرى وحريات موهومة! وما مساعي تلك الشبكة التلفزيونية الشهيرة إلا أحد مسارات تلك الجهود. الأمر جد خطير ولا يمكن السكوت عنه، إن تلك المفاهيم المتعلقة بالغلمانية (البيدوفيليا) تحديدا، وعند تغلغلها في المجتمع قد تصبح أمراً طبيعياً، بعد أن تبدأ غريبة وشاذة ومستبعدة، كما أن ترويج الأفكار والسلوك عبر الأفلام والمسلسلات ومختلف الملهيات باستمرار، وتكرارها ليل نهار قد يسهم في تقبل النفس البشرية لها والاعتياد عليها عند البعض، شئنا أم أبينا، الأمر الذي يؤدي بنا إلى ما يشبه وجود قنابل موقوتة مزروعة بيننا ما يمثل خطراً علينا وعلى أطفالنا ومجتمعنا. إنني أدرك تمام الإدراك مدى حساسية هذا الموضوع، ومدى حساسية طرحه ومناقشته، إلا أن تلك الحساسية ينبغي ألا تكون مسوغاً لدس الرؤوس في التراب، لابد من المواجهة الصريحة والانتباه لمثل تلك الممارسات الخطيرة، وعدم إغفالها وكأن الأمر لا يعنينا، خصوصاً إذا ما علمنا أن من الجهات من يتفاخر بعقد الشراكات الإستراتيجية مع مثل تلك الشبكات والمنظمات المشبوهة، وكأن لسانه أعجب بطعم "العسل المسموم". من جهة أخرى وفي السياق ذاته، هناك قضية تدعو للتساؤل، وهي متعلقة أساساً بالتسويق الإعلاني، وقد ظهرت في خمسينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم تم استخدامها في مجالات أخرى، والحديث هنا حول ما يدعى "الإعلان اللاواعي Subliminal Advertising"، وهو إستراتيجية يتم عبرها بث رسائل مصورة وشعارات ورموز أو أغان مخفية لا يلحظها أو يتنبه لها وعي المرء، في حين أنها - وبحسب النظرية - تخاطب اللاوعي وتؤثر فيه، ونتيجة لذلك قد تحمل الفرد على القيام بالسلوك المطلوب سواء في مجال التسويق، بالشراء والاستهلاك وترسيخ مفاهيم استهلاكية محددة، أو التأثير في الجانب الاجتماعي والسلوكي، بزعزعة القيم والأخلاق والمواقف، وزرع الأفكار عبر بث تلك الرسائل الخفية عبر مختلف الوسائل كمسلسلات الكرتون أو الأفلام أو الأغاني وغيرها، بحيث تؤثر في الوعي والسلوك. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل يعد موضوع الترويج المباشر لمفاهيم وقيم وأفكار مرحلة متقدمة من مراحل التأثير؟، وأعني بذلك أننا تجاوزنا مرحلة بث الرسائل الخفية التي تخاطب اللاوعي وتؤثر في الوعي، ونحن الآن بصدد المرحلة الثانية التي تخاطبنا صراحة وتوجهنا إلى ضرورة تقبل قيم معينة وسلوكيات محددة! أم أنه ينبغي أن ننظر للقضية من زاوية إيجابية تتمثل في أن بث الرسائل بطريقة مباشرة يمكننا من مواجهتها ويستفز انتباهنا ويدعونا لاتخاذ مواقف مناهضة لها والتحذير منها؟ إن هذا السؤال يحتاج إلى إجابة بعد بحث ودراسة متأنية من قبل متخصصين. إننا وبلا شك لن نجني فوائد النظام القائم الذي حوّل العالم إلى قرية صغيرة بالمجان، لابد من دفع المقابل، لقد اخترقت العولمة - عولمة كل شيء- بيوتنا وغرف نومنا وهواتفنا وعقول أطفالنا، إنها تنخر أجسادنا وتسيرنا وتتحكم بنا، وتفرغ جيوبنا وتستنزف مواردنا مقابل ما تقدمه لنا من فتات وتفاهات ومتاع الغرور، ولكننا نستطيع عن طريق ترسيخ الوعي في مجتمعاتنا التخفيف من وطأتها والتقليل من حدة طغيانها. لابد من إيجاد منصات بديلة تناسب قيمنا وتلبي طموحاتنا، سواء في مجال الترفيه أو غيره من المجالات، وأن يوضع حد أمام مبدأ الربح والخسارة والتفكير التجاري البحت في مثل تلك المشاريع، وألا ننخدع بعبارة "رضاؤكم هدفنا"، لابد أن ننحي المال جانبا عبر مشاريع غير ربحية تتصدى لكل ما يشكل تهديداً لنا، لا أن نوجد منصات تجتر القيم ذاتها عبر ترجمتها!، وتنقل لنا السخافات ذاتها وتروجها دون إدراك وتضع مبدأ الربح نصب عينيها، ثم تعتذر عن الخطأ غير المقصود وتعدنا بالإصلاح اللازم والمحاسبة. لابد لنا إذا أردنا مواجهة تلك المشاريع الضخمة ذات الأهداف بعيدة المدى، من مشروع وطني ينهض بالنشء عبر زيادة الوعي والتنوير، وبدل أن يمضي الطالب ردحاً من عمره وهو يلقن المعلومات فقط، ينبغي استثمار تلك السنوات الطوال في تأسيس وعي مستنير، فالعقول ليست أجهزة حواسيب تحتاج لإدخال المعلومة فحسب، بل إنها تحتاج للنهوض والوعي والاستنارة، أما المعلومات فيسهل الحصول عليها عندما ننجح في تأسيس مشروع تنويري متكامل يمكّننا من الاستفادة من العولمة دون أن تنتهكنا وتستهلكنا وتحولنا من أناس إلى مجرد أشياء.